على مدار أسبوع كامل، أثارت حادثة سقوط الشاب عياش محجوبي بحفرة (هي عبارة عن بئر ارتوازي في إحدى قرى محافظة "المسيلة" إحدى المحافظات الداخلية في الجزائر) منصات التواصل الاجتماعي، مع ما سمي بـ"الهبة الانسانية لإنقاذ الشاب" من داخل الحفرة التي يتجاوز عمقها 30 متراً والتي ظل يسمع صوته منبعثا منها حتى وفاته. وجهت انتقادات مريرة لمحافظ الولاية وللسلطات المحلية لجهة كيفية تعاطيها مع الحادثة والبطء في التعامل معها. وهذا ما أجج التضامن الشعبي أثناء محاولات الانقاذ والسخط على المسؤولين المحليين إذ بقي الشاب، وهو في العقد الثالث من العمر، في الحفرة أربعة ايام كاملة. قام مواطنون بتسخير شاحناتهم ووسائلهم الخاصة لمساعدة أعوان الحماية المدينة (وهو جهاز رسمي مكلف بالتدخل في الكوارث) لانقاذ حياة الشاب الذي ينحدر من عائلة فقيرة تمارس رعي الغنم وبعض الحرف.
"عياش" الذي تحوّل خلال الأيام المظلمة التي كان يتخبط فيها وحده الى "ايقونة للشباب" ولقطاع واسع من الجزائريين الذين اعتبروه ضحية "اهمال وتقصير" المسؤولين المحليين، فهؤلاء لا يمتصون غضب الشباب الذي يخرج الى الشوارع يحتج على غياب فرص العمل، ولا يقدمون للسلطة المركزية المعطيات الكاملة عن الأوضاع المحلية في محافظات الجزائر العميقة.
ويقول شقيق عياش، وقد ظهر على شاشات قنوات الاعلام، إن "السلطات المحلية والمحافظة تأخرت في التدخل، وقد اثار هذا استياءً عاماً لدى المتوافدين الى مكان الحادثة من المواطنين الذين ارادوا المساعدة". وقد نقلت قنوات تلفزيونية حواراً دار بين محافظ مدينة المسيلة وهذا الشقيق، حاول فيه المسؤول تهدأته وطمأنته بان الدولة وفرت الامكانيات الضرورية لانقاذ أخيه، فيما لم يبدُ هذا الكلام مقنعاً له إذ أشار الى أن ما طغى على المشهد هو المساعدات التي جاءت من قبل مواطنين جزائريين هبوا بمجرد رؤية الخبر والصور على منابر التواصل الاجتماعي.
تضمان شعبي أربك السلطات
السلطات المحلية بولاية "المسيلة "، وحتى تلك على المستوى المركزي، شعرت بضغط واحراج لما بدأت حادثة سقوط عياش في البئر تأخذ أبعاداً اخرى بعد التضامن الشعبي الواسع. قال شقيق عياش أثناء تلقيه العزاء بعد انتشال جثة أخيه إثر تسعة ايام كاملة من المحاولات، أنه فقد اخاً وكسب الملايين من الاخوة الذين التفوا حوله وحول عائلته اثناء الازمة. فقد توافد الآلاف من مختلف محافظات الجزائر الى المنطقة التي دفن بها الشاب، فأدركت السلطات المحلية والمركزية قوة هذا التضامن وأثره وسارعت الى إيفاد لجنة تحقيق قابلها سكان "المسيلة" بسخط واستياء، ما عطل مهمتها. وقد بدا والد الضحية هو الآخر متاثراً بما سماه "الدعم الاخوي النبيل" للجزائريين الذين توافدوا على الجنازة والعزاء بعدما أيقظ ما أسماه باحثون في علم الاجتماع "التضامن الشعبي" بمقابل الاداء الرسمي للسلطات وما اعتبر اهمالاً بحق البسطاء والفقراء.
مات عياش..
كان عياش بحسب شهادات رفاقه خلوقاً متواضعاً يميل للعزف على "الناي". وقد أعاد موته الى الواجهة تساؤلات عميقة حول علاقة المسؤول بالمواطن البسيط الذي لا يملك إلا حب الناس وهمتهم.
وقد عرّت الحادثة في نظر متابعين للأوضاع التنموية واقع الاتصال الهش الموجود بين السلطات المحلية والمواطنين البسطاء الذين تحولوا فعلاً في هذه الحادثة المؤلمة الى جهة تسائل السلطات عن أدائها وعن مردوديتها على أرض الواقع، فتركت حادثة سقوط عياش في البئر الارتوازي حفرة أخرى، وفجوة عميقة في العلاقة بين السلطات المحلية والمواطنين الذين احتجوا أمام مقر المحافظة للتقاعس عن انقاذ حياة شاب بقي يصارع وحده الظلام لأيام.
وظهر تلاحم شعبي آخر، إذ تقاسم المئات من الوافدين الى مكان الحادثة الطعام والشراب فيما بينهم، وبات الكثير منهم الليل في خيم تمّ نصبها في المكان.. الحادث "بسيط" وقد يكون "عادياً"، لكنه كشف عن مشاعر ذات دلالات بالغة الاهمية تختلج في النفوس.