ثلاث محطات تهجير مرّ بها قطار عُمر انتصار. فهي فرّت مع أولادها الثلاثة من محافظة الأنبار إلى محافظة صلاح الدين في آذار / مارس الماضي بعد أن اشتد القصف على مدينتها الفلوجة التي يتحصّن فيها مسلحون من تنظيم «داعش». إلا ان استقرارها في مدينة تكريت لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما استولى مسلحون من التنظيم ذاته على المدينة، فعاودت الفرار مجدداً صوب محافظة كركوك التي تشهد أطرافها هجومات متكررة من قبل هؤلاء.
وانتصار هي إحدى العراقيات الخبيرات بالهرب من الموت المتربص بها على كل مفرق من مفارق هذا البلد. وكانت أولى محطات قطار هجرتها حين فرّت عام 2006 إلى سوريا بعد مقتل زوجها على يد تنظيم «القاعدة».
وعلى مفرق الأزمة الأمنية الخطيرة الأخيرة في العراق، التقى نحو 5.2 مليون مهجر (يشبهون انتصار أو حالتهم أسوأ) مدفوعون بهاجس الخوف من قطع الرؤوس أو الاختطاف أو الموت تحت أنقاض بيت بفعل صاروخ طائش أو برميل متفجر تتقيأه طائرة لا تجيد قراءة خرائط الاعداء.
موجات من التهجير
إلا ان ما يشهده العراق اليوم من تهجير ليس الأول ما بعد 2003 أو ما قبله، وإن كانت الموجة الحالية هي الأخطر والأوسع. بل يمكن تقفي أثر التهجير إلى مطلع العام 2004، وقد تميزت الموجة تلك بطابعها المهني، حيث استهدفت العلماء والأطباء والطيارون وكبار ضباط الجيش السابق، من قبل ميليشيات مسيرة من أطراف إقليمية ومدعومة من أطراف في السلطة الجديدة. ولم يكن أمام هؤلاء سوى اللجوء إلى أمريكا والدول الأوروبية ودول الجوار، ولا سيّما سوريا والأردن، فيما استقطب إقليم كردستان العراق عدداً كبيراً من ذوي الاختصاصات العليا.
ومع اشتداد الصراع الطائفي في عام 2006، الذي تميّز بطابع منظّم، اتسعت دائرة التهجير لتضم، وفقاً لتقديرات المنظمات الدولية، قرابة ثلاثة ملايين مهجر عراقي في سوريا، ومليوناً في الأردن وما يعادل نصف المليون في مصر. لكن فرقاً جوهرياً يبرز ما بين عمليات التهجير السابقة وعملية التهجير الأخيرة: إذ في الأولى مُنح المهجرون فسحة من الزمن لتصفية ممتلكاتهم أو بعضها من أجل الاستعانة بها في ضنك الغربة، فيما الأخيرة أُلقت بالمهجرين على قارعة الطريق مجردين من كل شيء سوى ما يرتدون من ملابس.
شروط التهجير هذه المرّة وضعها تنظيم «الدولة الاسلامية» أو ما يُعرف بـ«داعش» الذي وزع على المسيحيين بياناً يخيرهم بين إعلان إسلامهم أو دفع الجزية أو المغادرة بملابسهم، على اعتبار أن ما يملكون سيصبح من ممتلكات «الدولة الاسلامية» وبمقدمتها دورهم السكنية التي وُسمت بحرف النون (لـ: نصارى) مشفوعة بجملة على الجدار الخارجي تقول ان «الدار من ممتلكات الدولة الاسلامية». وإثر هذا ترك نحو 10 آلاف مسيحي سهل نينوى، المنطقة التي تقع إلى الشمال والشرق من الموصل، بعد العاشر من حزيران / يونيو الماضي، أي تاريخ اجتياح التنظيم للمدينة.
وإذا كان المسيحيون قد تركوا نينوى هذه المرّة دفعة واحدة، الأمر الذي حول أبصار واهتمام العالم إليهم، فهم لم يتوقفوا عن النزوح من البلاد طوال السنوات الماضية بسبب التضييق عليهم من قبل المسلحين الذين يصولون ويجولون في طول البلاد وعرضها. يكفي لاستبيان مأساة هؤلاء، أنه من أصل 1.3 مليون مواطن مسيحي في العراق قبيل احتلال بغداد من قبل القوات الأميركية في 2003، لم يتبقَّ إلا نحو 300 ألف شخص فقط، كما يشير مركز «إيرين» التابع للامم المتحدة!
جبل الثلج.. جبل النار
وفيما ترك «داعش» للمسيحيين «خيارات» بالبقاء والجزية أو الرحيل، فإن الإيزيديين الذي يقدّر عددهم بـ500 ألف، وفرّ منهم 200 ألف في الفترة الأخيرة، لم يكن أمامهم سوى الموت أو الهرب بعد أن قتل منهم 500 فرد وأُسِّرت 300 امرأة أخذهن التنظيم كسبايا. وجد هؤلاء أنفسهم في غمرة تشبث الإنسان بالحياة، أمام خيار وحيد هو الصعود إلى جبل سنجار هرباً من سيوف مقاتلي «داعش» المتوثّبة للانقضاض على رقاب جديدة بعد أن سيطرت على نحو 65 في المئة من الأراضي التي يقطنها الأيزديون منذ قرون.
نحو 30 ألف إيزيدي تسلقوا كتف الجبل بعد أن ضاقت بهم الأرض، وعاشوا فيه يقتاتون على ورق الأشجار. حفرت الأمهات قبور ابنائهن بأظافرهن بعد أن عشش الجفاف في أمعائهم، عجزت الطائرات التي تبجّح بإرسالها الرئيس الأميركي باراك أوباما لإغاثة المهجرين، بعد استغاثة ممثلتهم في البرلمان، أن تنقذهم. تحطمت قناني الماء فور ارتطامها بصخور الجبل، وتبعثر الطعام على أحجاره، إذ امتنعت الطائرات من الاقتراب خشية استهدافها. أوباما الذي رفع سقف خطابه حول إنقاذ العراق من محنته، قرّر فجأة بأنه لن يجلي هؤلاء، وعدّدت الأمم المتحدة «صعّوبة الديناميات المتغيرة للأزمة مواكبة الوضع» الإنساني المتفاقم.
فما الحل؟ قامت قوّات البيشمركة، وهي ميليشيا الأحزاب الكردية، بإيجاد معبر إلى الجانب الذي يقطنه الكرد في سوريا، ومن ثمّ مكنت حوالي 15 إلى 20 ألفاً أيزيدياً من المرور إلى إقليم كردستان، فيما بقي أخوتهم الباقين في الجبل، تحوم سيارات «داعش» رباعية الدفع حوّلهم كضباع جائعة، تنتظر نفوق الفريسة لتنقضّ عليها، ولم يعرف أحد كيف يعيشون حتّى الآن.
في الوقت الذي كانت المدن العراقيّة تتساقط الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو بأيدي مسلّحي «داعش»، صمدت ناحية آمرلي، في محافظة صلاح الدين، والتي يقطنها نحو 20 ألف تركماني من الطائفة الشيعية. شهوة الحياة أبقت هذه الناحية الصغيرة عصية على «داعش» الذي أسقط محافظات بأكملها خلال ساعات، على الرغم من أن هذه الناحية تتوسط أكثر من 34 قرية سقطت جميعها بيد «داعش». آمرلي الواقعة على بعد 160 كيلومترا شمالي بغداد، ظلّت عسيرة لأشهر، وأدى ذلك إلى أن تقضي فيها النساء الحوامل موتاً بسبب توقف المستشفى الوحيد عن العمل لانقطاع التيار الكهربائي وغياب الكوادر الطبيّة، وفطر كل رجلين من رجال آمرلي الذين يحملون السلاح بقطعة جبن صغيرة واحدة، وبدأت العائلات تشرب من مياه الآبار، وبدأت معها آلام المعدة جرّاء تلّوث تلك المياه.
شبّه العراقيون آمرلي بستالينغراد التي انكسر الجيش الألماني على اعتابها، إلا ان الفرق بين المدينتين، هو وقوف الجيش الروسي بأكمله خلف ستالينغراد، يمدّها بالعتاد والمأكل والمشرب، بينما بقيت آمرلي وحيدة، حتّى وصلت إليها الميليشيات الشيعية وخلّصتها من حصارها.
الحلول الفاشلة
عجزت الحكومة العراقيّة أمام كل هذه الأهوال عن إحصاء عدد المهجرين، واتكأت في ذلك على المنظمات الدوليّة، علماً بأن عدم وجود إحصاء سكاني في العراق، بالإضافة إلى حجم البطالة المقنعّة الموجودة في وزارة الهجرة والمهجرين، كانا عاملان مركزيان وراء عجزها في مسؤولية أساسية لدولة بهذا الحجم. أما مجلس الوزراء الذي رفع حالة الطوارئ إلى أقصاها، فلم يجد من حل سوى «بيت المال» المنكوب: فمُنحت كل عائلة مهجرة مبلغ مليون دينار (نحو 700 دولار). ويعد هذا الحل خير مثال لاستحالة العراق لدولة فاشلة تكتفي بحلول مشاكل المواطن وقضايا المجتمع ببعض»الهِبات»، فيما تتراكم تلك المشاكل مع مرور الأزمات لتصبح عصية على أي حل فعلي.
دخل الفساد حتى الى هذه «الهبة» الضئيلة التي يتوجب على المهجّر قسراً تدبّر السكن والعيش بواسطتها. إذ اتضح أن المبلغ الذي خصّصه مجلس الوزراء لإغاثة المهجرين، والبالغ حوالي مليار دولار، وضعت تحت تصرّف نائب رئيس مجلس الوزراء، صالح المطلك، رئيس لجنة الإغاثة.. اتضح إذاً أن أمواله ذهبت إلى عقود وهميّة من أجل شراء «كرَفانات»، كما أن الكثير من المهجرين لم يستلّموا منحة الـ«700 دولار»، وما يزال البرلمان العراقي يبحث هذه التهم من أجل تقديمها إلى القضاء ليبت بأمرها.
المضحك المبكي، هو قيام قناة «العراقية» شبه الرسمية، بحملة تبرعات للمهجرين، لم تجمع طوال ثلاثة أسابيع أكثر من 50 ألف دولار. فجأة تبخر الميسورون الذين خلقتهم الزبائنية السياسية، ظل الرقم على شاشتها ثابتاً دون أن يقفز إلى أرقام فلكيّة كتلك التي منحت لتجّار الأحزاب أثناء توزيع عقود من الوزارات عليهم. وكشف الامر عن عدم الثقة بالسلطة، فلم يجازف لا الاغنياء ولا الفقراء بالتبرع لحكومة غارقة في الفساد، حيث لا شيء يضمن لهم عدم ذهاب الأموال التي يتبرعون بها إلى جيوب المتنفذين في الأحزاب السياسية، ما حدا بهم الى الذهاب إلى مجموعات شبابيّة تأسست على عجل لمساعدة المهجرين، وأثبتت نجاحها.
عجز الأمم المتّحدة
يتوزّع المهجّرون في العراق، ومن ضمنهم السوريين الذين لجأوا اليه ويقدر تعدادهم بـ215.000، على 1500 موقع. وتحتاج المنظمات الإنسانية الى حوالي 2.2 مليار دولار لإغاثة هذا الكم الكبير من البشر ومضيفيهم، لكنها لم تحصل حتّى الآن سوى على 600 مليون دولار، ما يعني أنها ما تزال بحاجة إلى حوالي 1.6 مليار دولار.
وتواطئ فصل الشتاء الذي حل مبكراً هذا العام على المهجرين حيث من الممكن أن يتعرَّض حوالي 1.26 مليون مهجّر في جميع أنحاء العراق للخطر من تداعيات طقس الشتاء كالبرد والامطار، وهناك حوالي 600 ألف شخص من هؤلاء بحاجة للمساعدة الفورية، وفقاً للأمم المتحدة.
إلا أن العجز الذي تعانيه الأمم المتحدة، تبدو واشنطن مشاركة فيه إلى حدٍّ بعيد، فمنحها للمهجرين لا تبدو متساوقة مع ما تعلنه في إنقاذ العراق من الأزمة الأمنيّة الكبيرة التي مرّ بها، والتي تنفق من خلالها ما يزيد على 7 ملايين دولار يومياً على العمليات العسكرية ضدّ «داعش» في العراق وسوريا. إذ لم تقدم الولايات المتحدة من أصل الدعم المالي لإغاثة المهجرين إلا حوالي 6.6 في المئة من المنح المُقدّمة.
قطار التهجير القسري في العراق لم يصل الى محطته الأخيرة، في الزمن المنظور على ما يبدو. وانتصار التي أدمنت التهجير في بلد الهجرات المتكررة لم تستلم بعد منحة الحكومة للمهجرين، على الرغم من ضآلتها. وهي كما هو حال الملايين من المهجرين تتطلع الى نتائج التحقيق البرلماني في شبهة الفساد التي طالت الأموال المخصصة لهم، كما أنها وجميع المهجرين بانتظار النتائج التي ستتمخض عن المعارك المعلنة والمستترة بين أفاعي الفساد من نواب ومسؤولين كبار حول صفقة شراء الكرَفانات التي قد يصل بعضها بعد أن ينتهي الشتاء، ويكون البرد والمطر قد أكل من أضلاع المهجرين وأرواحهم ما أكل.