... باللبناني!؟

لا نجادل في أصل اللغات، فهذا ليس من اختصاصنا، بل نتفحص حصراً النزعة العجيبة في خطاب إحدى حلقات برنامج قناة MTV التلفزيونية، وعنوانه "باللبناني"، الذي "يبرهن" على وجود "اللغة اللبنانية" ثمّ يصر على ربطها بطائفة معينة ومناطق بذاتها من البلاد.
2018-12-28

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
فريال الأدهمي - العراق

"اللبنانييّ ما بيحكو لغة عربييّ، بل لغة لبنانييّ، الفيديو رح يشرح ويبيّن الفرق!!".. هذه الجملة ذيّلت بها إحدى المجموعات الفايسبوكية فيديو نشرته نقلاً عن قناة MTV اللبنانية، التي تعرض فقرة بعنوان "باللبناني"، تتناول نواحٍ من "مختصات الثقافة اللبنانية". شوهِد الفيديو أكثر من 367 ألف مرة (لغاية لحظة كتابة هذه السطور)، وهو رقم كبير جدّاً بالنسبة لصفحة محلية صغيرة تشاهَد فيديوهاتها عادة بضع مئات من المرات، لا أكثر. لا شكّ، إذاً، بأن عنوان الفيديو ومضمونه حفّزا سجالاً محتدماً ومشاركات بالألاف، بعضها موافق وبعضها شاجب معترض أو ساخر حتّى. الفيديو الذي "يشرح ويبيّن الفرق" هو مقابلة مع "باحثة" تقوم باستعادة مفردات أو صيغ كلامية من المحكية اللبنانية مع ما يفترض أنه تبيان ارتباط أصولها بالسريانية، ومع المسارعة لنفي صفة العروبة عنها بالمطلق. "اضطرينا نمارس اللغة العربية لنتواصل مع الجيران"، يقول مقّدم الفقرة في تمهيده لحديث الباحثة ليلى لطّي، كأنما "الجيران" يحكون لغة أخرى تماماً، وكأننا في "واحتنا" اللبنانية نقيم في فقاعة خاصة لها عاداتها ولغتها وثقافتها الحصرية. لن نتطرّق هنا إلى البحث اللغوي والتدقيق في ما تقوله السيدة لطّي، فهذا شأن طويل يستأهل أن يعالجه مختصون به. لكننا نتفحص حصراً النزعة الفردانية العجيبة في خطاب الحلقة واستحضار لطّي لمصطلح "اللغة اللبنانية" ثمّ إصرارها عليه وربطه بالطائفية والمناطقية.

"جبنا شوية عربي على السرياني وصار عنا هذه اللغة المختلطة اللي منسميها لبناني"، يتابع المقدّم، قبل أن يطرح لنا الإشكالية الكبرى: إذاً "هل اللبنانية لغة أم لهجة؟". ويجيب في اللحظة ذاتها "كان الجواب أنها لغة"! وتوافق الباحثة فوراً كأن قولهما هذا من مسلّمات الأمور.

وتلك نصف المشكلة فقط. تسمّي لطّي العربية "لغة الغريب" أثناء كلامها عن كيفية تعامُل المتكلمين بالسريانية مع العربية، وتشرع باستعراض فروقات في اللفظ والتحريك والتسكين والصيغ بين المحكية اللبنانية وبين الفصحى العربية. "في ناس بيفكروا إنو نحنا منحكي عربي، بس بلهجة معيّنة. Non, Non! هيدا مئة بالمئة سرياني". أحد براهينها على ذلك كان أنّنا "باللغة اللبنانية" نقول "أكلتْ، شربتْ" بتسكين آخر الكلمة، فيما بالعربية يُقال "أكلتُ، شربتُ"! هذا مثل حقيقي عن كيف نتكلّم السريانية و"ليس أبداً" العربية. دليل آخر لها كان "نحن منقول بكرا، مش غداً!"، على أساس أن من يسكن في الشام أو في فلسطين أو في مصر أو غيرها لا يقول "بكرا"؟ فكيف يكون هذا استدلالاً على لغة قائمة لها قواعدها ومفرداتها الخاصة، ثمّ كيف يكون اسم هذه اللغة "اللبنانية"؟ عندما يسألها المقدم مجدداً حول التقارب الشديد بين العربية والسريانية/اللبنانية، تقرّ بذلك، ثمّ تستدرك فوراً أن هذا لا يعني أن اللبنانية ليست لغة منفصلة.

اختارت السيدة أن تنزع عن اللهجة الشامية اسم "الشامية"، وأن تسبغ عليها صفة اللغة أولاً وجنسية اللبننة ثانياً. فتدير ظهرها للأصول المشتركة والمتفرعة للغات المنطقة السامية، وعلاقاتها الشائكة والمركّبة والمتقاطِعة فيما بينها، لتوحي للمشاهِد أن ثمّة لغة منفصلة بشكل تام هي ليست أبداً عربية ولا علاقة لها بها، ظهرت على لسان اللبناني، دون غيره.

كان أحد براهين الباحثة على أنها "لغة" وليس "لهجة" هو أنّنا "باللغة اللبنانية" نقول "أكلتْ، شربتْ" بتسكين آخر الكلمة، فيما بالعربية ("لغة الغريب" على حد قولها) يُقال "أكلتُ، شربتُ"! هذا مثل حقيقي عن كيف نتكلّم السريانية و"ليس أبداً" العربية.

هو ابتلاء التخندق داخل هويّات فردية محدودة للغاية، والتلحّف بها. وهي هويات قومية وطائفية كذلك، لا تتوانى في أن تميز نفسها بصفات هي وحدها من تصدّق أنها تخصّها حصراً. فها أبناء سوريا وفلسطين وحتى لبنان يعلّقون على الفيديو هازئين. يقول أحدهم كيف تكون لغة لبنانية والسوريون يتحدثون بها؟ وآخر من تونس يقول أن بعض قواعد الكلام مشتركة، فهل التونسيون يتكلمون اللبنانية دون أن يدروا بذلك؟ وآخر يقول أنه من العجيب أن لغته هي العربية لكنه على الرغم من ذلك يفهم كل كلام الباحثة باللبنانية مع أنها لغة مختلفة تماماً!

لا تنفكّ لطّي عن ربط المحكي اللبناني بطائفة ومنطقة، ولا تجد حرجاً في إلباس جدالها الايديولوجي هذا لبوساً علمياً، بأسلوب يزداد ابتعاداً عن اللغة العلمية ويتاخم النزعات الطائفية والمناطقية لدى تيار فكري/سياسي لبناني، يعتبر لبنان كياناً قائماً بذاته منذ الأزل، متقدماً ومتمايزاً عن سائر المنطقة وشعوبها، رافضاً للتماهي مع هويّاتها المختلفة. يتجلّى هذا مجدداً بوضوح مع استحضارها للشاعر سعيد عقل. والشاعر الكبير الراحل صرح بالمناسبة مراراً بأنّ "هناك 3 حضارات عالمية فقط، هي اللبنانية واليونانية والرومانية"! ما زال "القوميون اللبنانيون" من تلامذته يؤمنون ويروجون للكيان اللبناني كوِحدة مستمرة منذ ما قبل الفينيقيين إلى هذا اليوم (مع أن لبنان الذي نعرفه لم يولد إلا منذ مئة عام). وسعيد عقل الذي، عندما اخترع فكرة اللغة اللبنانية، اعتبر أنه يقود "ثورة باللغة وثورة بالحرف"، داعياً الى كتابة العامية بالحرف اللاتيني، مدعياً أنه لو تبنيا ذلك لدفعنا بأنفسنا مئتي سنة إلى الأمام (لكن لا أحد يعرف كيف يكون ذلك). أمّا الباحثة ومحاوِرها فينهيان فقرة مديح الذات المبطّن بـ"بسّ بلبنان/ لازم نفتخر أكتر وأكتر".

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...