يقال ان "مجيدة" هددت زوجها "حرابه" بوضع السمّ له في الطعام في حال لم يحصل على 50 فلساً بدلاً عن الـ25 فلساً التي يتقاضاها كأجر يومي من معمّل الآجر. أجج "حرابه" العمّال، واختار للإضراب وقتاً لا يستطيع فيه رب العمل رفض طلبه، أثناء تخمير كمية كبيرة من الطين المعدّ للشيّ كي يصبح آجراً. رفض ربّ العمل في بداية الأمر طلب حرابه والعمّال الحانقين، لكنه حين نظر إلى كميّة الطين، رضخ، ما دفع زملاء "حرابه" إلى ترديد أهزوجة النصر: "هتلر بالدول وحرابه بالبوجات، ولو ورّث سبيله جن قطار وفات"، ما يعني أن هتلر ينتصر على الدول وحرابه ينتصر في البوجات (وهي أفران صناعة الآجر)، وأنّه حين يشعل غليونه، فدخانه يشبه في كثافته الدخان المنبعث من عادم القطار.
بعد عقود كثيرة على ثورة "حرابه"، لا يمكن القول ان عمال العراق بخير. فلا اضرابات تجدي في واقع لا يحتكم إلى قوانين العمل الغائبة في بلد يتسلّم نوّابه أعلى المرتّبات عالمياً. زملاء حرابه هم عمال من دون مصانع ولا أشغال ولا ورش عمل. فكل هذه توقفت أو تدنت انتاجيتها إلى أقصى الحدود. راكمت هذا التراجع السياسات السلطوية القائمة على الارتكاز على عوائد الريع النفطي الوفيرة، ويتوِّجه اليوم اقتراح رئيس الوزراء العراقي الجديد الذي تمّت تسميّته في 8 أيلول / سبتمبر، (بحسب ثالث بند من برنامجه الحكومي)، وهو "تشجيع التحول نحو القطاع الخاص"، ملتمساً في خصخصة قطاعات الدولة العراقية حلاً سحرياً لأزمة العمل والعمال في البلاد.
ما بعد عصر "حرابه"
أعقبت حادثة "حرابه" إضرابات عمالية منظّمة. فبعد انقلابه الذي قاده في عام 1936، أجج بكر صدقي مشاعر العمال في خطابه الشهير الذي قال فيه "ليس في العراق طبقة عمالية أو رأسمالية متنفذة"، فقامت تظاهرات في أنحاء العراق، طافت إحداها شارع الرشيد في بغداد مطالبة بالخبز للفقراء والأرض للفلاحين والموت للفاشيين، وتوّجها عمال الموانئ في البصرة بتظاهرات واسعة انضم إليها في ما بعد عمال معامل السجائر والسكك الحديدية في بغداد، وعمال شركة نفط العراق في كركوك ومحطات ضخ النفط وعمال معامل النسيج في النجف.. مطالبين بتحسين أحوالهم المعيشية. وشكل هذا مقدمة مهمة لإضرابات عمال نفط كركوك المعروفة بـ"كاور باغي" والتي قتل على اثرها حوالي 10 عمّال وأصيب 26 آخرون، إلا انها أرضخت شركة النفط البريطانية ودفعتها لتعديل الأجور من 80 فلساً إلى 140، والبدء ببناء مساكن للعمال وتهيئة وسائل نقلهم وإيقاف الطرد التعسفّي.
وبعدما أطاح عبد الكريم قاسم في ثورة تمّوز عام 1958 بالنظام الملكي، كان التخوّف كبيرا من هجرة رأسمال المال المحليّ، على الرغم من أن قاسم استثنى القطاع الصناعي من التأميم، على العكس مما فعله مع قطاعي الزراعة والنفط. وكان التخوّف في محلّه، لكن علاجه كان سريعاً حيث أمَّم حوالي 27 شركة ومصنعا، ورافق ذلك تنظيم الشركات الكبرى، ووضع حدود لأسهم الأفراد، وخصص بالمقابل 25 بالمئة من الأرباح للعمال.
العامل.. موظّفاً!
بعد انقلاب تموز / يوليو 1968، أقدم حزب البعث على عدد من الخطوات التي أمّنت له الاستمرار في السلطة عبر احتواء شرائح معينة، مثل سنّ قانون الحكم الذاتي للأكراد، وتأسيس الجبهة الوطنية مع الشيوعيين، وكان من شروطها أن يوقف الأخير نشاط المنظمات المهنية المرتبطة به، ما عُدّ في حينه اغتيالاً للحياة النقابية، لا سيما أن تراكم خبرات نقابات العمال والمعلمين والمهندسين التي كان الحزب الشيوعي فاعلا فيها أنتجت نمطاً متقدِّماً من التنظيم المهني. وكان من نتائج هذا الشرط القاسي تفرد السلطة بالعمل النقابي الذي تحول إلى مجرّد كتل بشرية تخرج في مسيرات إلى الشوارع من أجل التهليل للقائد "الضرورة" ولقراراته، حتى وإن كانت ضد مصالح من تمثله هذه النقابات والمنظمات، كالقرار المرقم 150 لسنة 1987 الذي حوّل العمال في القطاع الحكومي إلى موظفين، تحت ذريعة أن مسمى العامل يقلل من قيمته اجتماعياً، وإن إطلاق مسمى الموظف عليه أليّق به، كما قال الرئيس الأسبق صدام حسين أثناء حديث متلفز.
لحق ذلك قرار إلغاء قانون العمل المشرّع عام 1970 الذي يعتبر من أفضل القوانين العمالية في المنطقة، والاستعاضة منه بقانون عمل جديد (رقم 71 لسنة 1987). كما سنّ قانون التنظيم النقابي رقم 52 لسنة 1987، والذي حُظِر بموجبه التنظيم النقابي العمالي في القطاع العام، وقلصت الهياكل النقابية.
في عام 1984، وحين كان حزب البعث ينادي بالاشتراكية ويعلّم التلاميذ ترديد شعاراتها، كانت نحو 782 منشأة صناعية تعمل في البلاد، 67 في المئة منها تعود ملكيتها إلى القطاع الخاص. ومع غياب قانون العمل وإبطال النقابات العمالية، كان العمّال في هذه المنشآت يئنون تحت استغلالهم المتزايد في ساعات العمل وتقليص الأجور المتفاقم بسبب الحرب المستمرة مع إيران. اختفت في أواخر الثمانينيات احتفالات الأول من أيار/مايو من شوارع العراق، بل واختفت حتّى المصانع التي أثرّ فيها الحصار الاقتصادي الذي فُرض عام 1991 بعد احتلال الكويت. هكذا تعطّل 80 في المئة من مجمل المصانع التابعة للقطاع الخاص وتعطّلت أيضاً المصانع التابعة لـ76 شركة حكومية تحوي 250 مصنعاً، ولحقها 45 ألف مصنع تابع لاتحاد الصناعات.
الفساد المنظّم!
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في نيسان/ أبريل عام 2003، وبناء نظام سياسي "ديموقراطي" تحت إشراف الاحتلال الأميركي، تلخّص تصوّر الإدارة الأميركية والأحزاب العراقيّة في الاعتماد على "اقتصاد السوق". إلا ان هذا التصوّر تلخص مجدداً بالاستناد إلى الريع النفطي وتعميم الزبونية السياسية بغاية استمرار تلك الأحزاب في الحكم. ورافق هذا أيضاً التعددية النقابية، والتي تشكلت من خلال اتحادات عدة أدعى كلّ منها الشرعية والقانونية في عمله. إلا ان الحكومات المتعاقبة لم تعترف سوى باتحاد واحد هو "الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق"...
بيد ما تستطيع النقابات فعله وسط تحول المصانع والمعامل الى ركام وتوقّف ضجيجها؟
في آذار / مارس الفائت، اعترفت وزارة التخطيط بتعطّل 1996 مصنعاً، ضمن مسح تجريه لم يكتمل حتّى هذه اللحظة، واعترفت أيضاً بأن وزارة الصناعة العراقية تدفع رواتب لموظفيها وهم لا يقدمون شيئاً للصناعة، ما عدّته "عبئاً ثقيلاً على الموازنة"، ولا تساهم الصناعة في البلاد بالإنتاج المحلي إلا بنحو 2.4 في المئة، وتعتمد وزارة الصناعة على نحو 40 في المئة لسد أجور عامليها على "المعونات" الحكومية، بحسب الوزارة.
الإنفاقات الحكومية على قطاع الاستثمار والصناعة بلغت عام 2013 لوحده نحو 47 مليار دولار. وهي حجة مفيدة. ففي الواقع، تذهب أغلب هذه الأموال إلى أرصدة الأحزاب وتجارها، حيث لا يزال العراق يصنّف في "حضيض قعر معدلات الفساد بالعالم" وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، والتي ترى أن الفساد أدى إلى "إذكاء" العنف السياسي، وأنه لا يزال "فاشلاً" في توصيل الخدمات الأساس بشكل كافي، فضلاً عن أن 23 في المئة من أبنائه لا يزالون "يعيشون بفقر مدقع".
ومع مخطّطات الخصخصة التي تنوي الحكومة الاعتماد عليها في جميع القطاعات، حتى الصحة والتعليم والكهرباء، كما ذكر رئيس الوزراء حيدر العبادي في برنامجه، لا يبدو أن هناك محاولة للنهوض بالاقتصاد، أو حتى ترسيخ مبدأ "اقتصاد السوق". فمشاريع الخصخصة ليست إلا حلقة أخرى من تنحي الدولة العراقية ومؤسساتها عن خدمة قطاعات حيوية في المجتمع، بعدما فقدت دورها في السيطرة على العنف وفرض سلطة قانون حقيقية لاحتوائه.
لا يبدو أن لـ"مجيدة" الألفية الثالثة القدرة على تهديد "حرابه" بالقتل حتّى يرفع أجوره، إذ انها تعلم أنه يصنّف ضمن البطالة المقنعّة في معامل الحكومة، وأنه بلا قوّة تسنده، وأنه أيضاً يأخذ مرتّباً عن مشاركته في لعبة النرد بشكل يومي مع زملائه في المصانع المتوقّفة.