سوريا: رأس السنة على خطوط التماس

هناك زينة واضواء وبرامج احتفالات، ولكن الأسواق السوريّة تشهد حركة اعتياديّة، وهي لم تنتعش بفعل موسم تخفيضات آخر العام. فأولويات الإنفاق عند الناس قد تبدّلت ضمن معادلة تآكل الدخول، وغلاء السلع الأساسيّة.
2018-12-28

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
أحمد فريد - مصر

تبتكر زينات الميلاد ورأس السنة في سوريا معانٍ إضافية تفاوض برمزيّتها حالة الإفلاس العام المتراكمة خلال السنوات الماضية. والمناسبتان مرتبطتان بمفهوم الولادة الطقسيّة، الاحتفالية، حين يرافقهما الضوء كخيارٍ بصريّ عميق الدلالة في مجافاته لتداعيات العتمة، ودلالاتها المواتية للفناء والموت.

ولعل اتساع المساحة المنارة بالضوء وحيله، تعدّت هذا العام الأحياء المسيحيّة الآمنة في دمشق إلى سواها، وكذلك تعدّت نطاقها المألوف في باقي المحافظات التي لم تجلس إلى مأدبة الحرب الباذخة (المنطقة الساحلية والجنوبية). وفي هذا مراوغة وجوديّة تستهدف قبل كل شيء نفي استنتاجات الانهزام، سواء داخل البنية التشريحيّة للمجتمع السوري المتنوّع، والمعتدل راديكاليّاً، أو في خطاب السلطة الإعلامي الذي يتوسّل نتائج الانتصار بمعناه الكلي قبل تحقّقه فعليّاً.

زينة على خطوط التماس

يجيء عيد الميلاد، ورأس السنة هذا العام أكثر إلفةً مع زينات الشرفات الواسعة التي اعتادها المحتفلون قبل مسيرة الحرب، إذ لا قذائف هاون تطيّرها الفصائل الإسلاميّة المسلّحة من سماء جوبر لتحطّ فوق منطقة العباسيين، أو القصور، أو حتى فوق برج الروس والقصاع وباب توما وباب شرقي، وكلّها أحياءٌ متجاورة في دمشق تقطنها عائلاتٌ مسيحيّة. ولا ضجيج أيضاً ترسله راجمات الصواريخ من مرابضها في مطار المزّة العسكري، أو على جبل قاسيون ليزكم الهواء بالترقّب والكآبة. ولولا لعنةُ الغياب في تعداد المهاجرين واللاجئين، لكان الميلاد ورأس السنة أكثر بهجةً على محتفليه، بحيث يكاد لا يخلو بيتٌ من مهاجرٍ، أو لاجئ، أو نازح.

كما أنّ تَحَسُّن الكهرباء على نحوٍ طفيف هذا العام، جعل أضواء الزينات تبدو أكثر تودّداً للحياة، بالرغم من بقاء الحواجز على مداخل العاصمة وفي قلبها، كشرطٍ أساسيّ لفهم تعاسة سكّانها، بما تحملهُ من دلالاتٍ استنتاجيّة تُوهِم باستمرار الحرب، أو بالتصاق الناس ببعض مرادفاتها. وعلى نواصي الشوارع المحتفِلة بنهاية العام، يظهرُ أشخاصٌ متنكّرون بثياب "بابا نويل"، يقرعون أجراساً صغيرة في ليل العاصمة الخارجة من نفق التعب الطويل، ويتصوّرون مع أطفالٍ صغار لقاء مبالغٍ زهيدة، أو يساومون أهاليهم على الحضور في ليلة الميلاد لتقديم هدايا ارتجاليّة. وهذه فرصة عملٍ استرزق منها الكثيرون هذا العام. حتى أن المحلات التجارية الكبيرة (المولات)، باتت تعلن عن تخفيضات تصل إلى 70 في المئة، وبعضهم يعلن أنها أكثر من ذلك، مستعينين بالعديد من شخصيات "بابا نويل" التي تروّج للتنزيلات بابتساماتٍ مصطنعة وحركاتٍ بهلوانيّة تجعل الأطفال يلتصقون بهم للتفرّج عليهم.

تتمدد السياسة الليبراليّة للحكومة حيث ستنخفض مخصصات صندوق المعونة الاجتماعيّة بمقدار الثلث تقريباً، وكذلك سينخفض دعم الطحين التمويني حوالي 3,5 في المئة، بينما لم تخصص الموازنة سوى 430 مليار ليرة لدعم المشتقات النفطيّة.. وكل هذا يزيد من ورطة الدخول المنخفضة (أقل من 100 دولار في الشهر) التي بالكاد تتدبر شؤون معيشتها الأساسيّة.

أما ليلة رأس السنة فيمكن اللحاق بها باكراً، والحجز لحضور واحدة من بين حفلاتها بمبالغٍ تتراوح بين 50 دولار إلى 250 دولار، بحسب المحافظة، واسم المطرب، ونجوم المحلّ، وخدمات البوفيه المقترح من قبل الإدارة. ومن المتوّقع أن يحشد الإعلام المتلّفز الرسمي، بشقيّه الحكومي والخاص، ساعاتِ بثٍّ مباشر لاحتفالات رأس السنة هذا العام من ساحة جورج خوري، ومن باب توما، وغيرها من المناطق ذات الغالبيّة المسيحيّة، في محاولة لجذب الاستثمارات الخارجية، وإيهامها بانتهاء الحرب وزوال مخاضها الطويل. وفي هذا استثمارٌ ذكيّ للعديد من المناطق المسيحيّة التي كانت على مقربة من خطوط التماس بين جيش النظام، وفصائل المعارضة الإسلامية خلال السنوات الماضيّة.

موازنة قبل الميلاد ورأس السنة

يستحوذ الإنفاق الجاري، كما في موازنات الأعوام السابقة، على ثلثي اعتمادات موازنة العام 2019، ما يجعلها موازنة انكماشيّة تساير الوضع الاقتصادي الهشّ للبلاد، ولن تؤمن سوى 70 ألف فرصة عمل محتملة في القطاع الحكومي، بالإضافة إلى غياب أي مؤشرات حقيقية تدل على تعافي واردات قطاعي النفط والغاز، أو تحسّن الإيرادات الضريبية، أو حتى حدوث نمو محتمل في حركة الاستيراد والتصدير، لذا فهي كذلك موازنة تضخّمية يجري تمويلها بالدين الداخلي (سندات الخزينة)، وربما الخارجي (قروض ومساعدات من دول مانحة) أيضاً، لاسيما وأنّها رصدت نحو ثلث اعتماداتها للإنفاق الاستثماري، أي ما قيمته 2،5 مليار دولار، سيذهب نصفها تقريباً لإقامة مشاريع استثمارية داخل المناطق المدمّرة التي استعادها النظام.

وتشهد الأسواق السوريّة حركة اعتياديّة، إذ أنها لم تنتعش بفعل موسم تخفيضات آخر العام كما كان منتظراً منها. فأولويات الإنفاق عند الناس قد تبدّلت ضمن معادلة تآكل الدخول وغلاء السلع الأساسيّة. كما لم تحمل إليهم موازنة العام القادم جديداً يُذكر، سوى تمدد السياسة الليبراليّة للحكومة داخل بعض عناوين الموازنة، حيث ستنخفض مخصصات صندوق المعونة الاجتماعيّة بمقدار 33 في المئة تقريباً، وكذلك سينخفض دعم الطحين التمويني حوالي 3,5 في المئة، بينما لم تخصص الموازنة سوى 430 مليار ليرة لدعم المشتقات النفطيّة. وكل هذا يزيد من ورطة الدخول المنخفضة (أقل من 100 دولار في الشهر) التي بالكاد تتدبر شؤون معيشتها الأساسيّة.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...