المصالحة الوطنية في العراق: الدم والفساد

هزة متوسطة على مقياس التنافر الاجتماعي الذي خلّفه احتلال العراق من قبل القوات الأميركية في نيسان/أبريل 2003، كانت كافية لإظهار المخزون الطائفي لدى الكثير من العراقيين، واحتلال نينوى، ثاني أكبر المحافظات العراقية، من قبل تنظيمات مسلّحة أظهر ذلك جلياً. كتّاب ومثقفون، بعضهم لاديني وبعضهم الآخر أقرب إلى الإلحاد منه إلى الإيمان، سرعان ما أعادوا تخندقهم الطائفي، وقفز مربّع الهويات الفرعية مجدداً
2014-07-23

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
| en

هزة متوسطة على مقياس التنافر الاجتماعي الذي خلّفه احتلال العراق من قبل القوات الأميركية في نيسان/أبريل 2003، كانت كافية لإظهار المخزون الطائفي لدى الكثير من العراقيين، واحتلال نينوى، ثاني أكبر المحافظات العراقية، من قبل تنظيمات مسلّحة أظهر ذلك جلياً. كتّاب ومثقفون، بعضهم لاديني وبعضهم الآخر أقرب إلى الإلحاد منه إلى الإيمان، سرعان ما أعادوا تخندقهم الطائفي، وقفز مربّع الهويات الفرعية مجدداً إلى الواجهة. إنه المربع الأول: مربع السنّة والشيعة. الجميع يفتح النار على الجميع، حيث أصبحت صفحات التواصل الاجتماعي مسرحاً حيّاً للتراشق بالاتهامات والاتهامات المضادة، ولو قيّض لفريق من علماء الاجتماع أن يحلّلوا هذا الكمّ من الشتائم والتخوين والتحقير المتبادل بين الطوائف، لخرجوا بنتائج مذهلة عمّا وصل إليه المجتمع الذي عانى طيلة العقود الأربعة الماضية من كم هائل من البطش والتنكيل والتجويع والاحتلال. ما الذي يحصل؟ أين كان يختبئ كل خزين الحقد هذا على الطرف الآخر؟ كيف لم يروّض طيلة السنوات الماضية؟ كيف لم يلجمه الموت؟ ولِمَ يُرمَ اللوم على الطوائف في سقوط المدن بدل الدولة؟ بات العراقيون السائرون في الشوارع بالنسبة للسلطات، زحاما من علامات الاستفهام، حيث الأسئلة معلقة على شفاه الناس، وتلف جثامين الضحايا. أسئلة بلا أجوبة في بلد لا يشبه أي بلد معاصر من حيث بنيته السياسية وتكوين أحزابه وتقاسمها للسلطة. كيف إذن تُدار الدولة بالفعل؟

عقد أولي للمصالحة

يقول أكثر المعتدلين في العراق أن في لحظات مأزومة كهذه «الصمت علاج.. لو تكلّمتَ لخرجتَ بنبرة طائفية»، الأمر الذي من شأنه أن يؤجج الموقف أكثر. أما السياسيون، فهذه فرصتهم السانحة للنيل من خصومهم من الطرف الآخر، الشيعة يرمون باللوم على السنة، والعكس يحصل بالتأكيد.

تحضر في هذه الملهاة المليارات التي أنفقتها الحكومات العراقية المتعاقبة على «لجنة المصالحة الوطنية» (لزرع المحبّة بين الطوائف؟)، وهي لجنة تدار بعقلية العشيرة. إلا أن الحكومة عجزت عن ردم الفجوات التي عمّقها الاحتلال الأميركي للتخفيف من حدّة ضرب الشيعة والسنّة لجنوده وآلياته، منطق «فرق تسّد» بصيغة العراق، وذلك لإرساء الطائفية وخلق اقتتال أهلي. وقد لا يخفى على أحد الآن أنه كان من الصعب دمج السُنة في العمليّة السياسية التي تمت بعد الاحتلال وذلك لخسارتهم نفوذهم في السلطة، أو على الأقل هذا كان مصير العائلات السنية المقتدرة مادياً التي كانت تحابي النظام السابق.

 إلا أن ما عُدّ بمثابة عقد أولي للمصالحة، عبر انخراط بعض وجهاء السنة في العملية السياسية والمشاركة في كتابة الدستور عام 2005، ومن ثَمّ خوض الانتخابات، لم يصمد طويلاً، إذ لم تمض بضع سنوات إلا وبدأت الحكومة، التي هي نتاج المحاصصة الطائفية، تلفظ هؤلاء ليحل محلهم المتطرفون المتاجرون بالدين والطائفة، ممتطين شعارات التهميش والاقصاء.

الصحوات على صفيح ساخن

تعود أولى خطوات الطلاق في زواج المنفعة ذاك الذي ربط بين سياسيّي الطوائف، إلى العام 2011 عقب الانسحاب الأميركي. كانت أولاها اتهام نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي بقضايا إرهاب، وثانيها اعتقال مجموعة من حمايات وزير المالية الطبيب رافع العيساوي، الذي كان دخوله إلى العملية السياسية ضمن صفقة مع واشنطن التي اتهمته بأنه خلال فترة عمله في مستشفى الفلوجة عالج المسلحين الذين قاوموا جنودها. جاء التعرّض لهذين القياديين السنيين بمثابة إعلان حرب على السنّة، بحسب ما فُهم، أو أُفْهِم العامة من أبناء المناطق الغربية من العراق ذات الأغلبية السنية. وزاد طين الأزمة بلّة، قطع المرتبات الشهرية عن أعضاء الصحوات في الأنبار (وكلهم من السنّة) التي شكلها الاميركان عام 2007 لمحاربة القاعدة ونجحوا إلى حد كبير في مهمتهم بالقضاء عليها. طالب هؤلاء بدمجهم في قوات الجيش العراقي على غرار ما فعلت الحكومة مع الميليشيات الشيعية، إلا أن الحكومة رفضت ذلك، وبات الكثير منهم عرضة للموت والتنكيل من قبل مسلحي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). كانت ذريعة إبعادهم أن رواتبهم تشكل عبئاً على الميزانية. لكن موازنة مشروع المصالحة الوطنيّة، التي تتكفل بدفع رواتبهم، بقيت كما هي (12 مليون دولار شهرياً). وبدلاً من احتضان هؤلاء الرجال الذين حاربوا القاعدة و«داعش»، انفقت ميزانية المصالحة الوطنية على عقد مؤتمرات تافهة، تلقى فيها قصائد مسطحة وخطب أكثر تسطيحاً.

وستعطي سلسلة الأفلام التي انتجها التنظيم الإرهابي، مثل فيلم «صليل الصوارم»، فكرة أوضح عن تخلي الحكومة عن هؤلاء الذين ناصروها وساعدوها على استتباب الأمن في المحافظة التي أصبحت لاحقاً مرتعاً للتنظيمات المتشدّدة.

كل هذا كان يجري بينما كانت الحكومة، وعلى رأسها رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، ترعى بشكل واضح ميليشيات (شيعية) أصبح لها سطوة في الشارع العراقي، فضلاً عن استخدام أفرادها سيارات تابعة للدولة، وأغلب أعضائها يحملون بطاقات هويّة تؤهلهم الدخول إلى المنطقة الخضراء المحصنّة، كما تم تأسيس ميليشيات أرسلت للقتال في سوريا، وإحداها تابعة لوزير النقل العراقي أمين عام منظمة بدر، المقرّب من المالكي، هادي العامري.

الفراغ يخلف خراباً

بات الخراب يتربص لملء الفراغ الذي خلفه إبعاد القوى السنيّة. المعادلة معروفة، وتناولها الكتاب والصحافيون المعتدلون في مقالات هي عبارة عن نواقيس خطر وصلت أسماع الحكومة. لكن أية حكومة؟
تحوّلت الحكومة إلى بضعة أحزاب تعتاش على الطائفية التي رسختها داخل النسيج المجتمعي العراقي، «اعطهم طائفية أكثر.. خذ أصواتاً أكثر»، هذا ما عمل عليه عدّة نواب في حملاتهم للترشح الى البرلمان العراقي في نسخته الثالثة التي انتجتها انتخابات نهاية نيسان / أبريل الماضي، ومنهم نائبة في ائتلاف المالكي رددت أكثر من مرّة عبر الفضائيات «أريد قتلى من السنّة بعدد قتلى الشيعة». لم تتوقف هذه النائبة وحزبها عند المعادلة الرياضية التي تقول أن الشيعة هم الأغلبيّة، وأن التفجيرات في المناطق المختلطة أينما حلّت لا بد وأن تطيح بالشيعة أكثر من السنّة، ولم تهمّها معادلة أن المناطق السنية أصبحت حاضنات للتنظيمات الإرهابيّة، بعد أن تسلل الفساد إلى المؤسسة العسكرية من خلال بعض قادتها وبعض أفرادها، وبعد أن ترك رئيس الحكومة، حلفاء الأمس لقمة سائغة لعربدة «داعش».

لكن ما هي المصالحة؟

إبان الاقتتال الطائفي الذي اندلع عام 2006 في العراق، سارع عامر الخزاعي، أحد المقربين من المالكي، إلى تأسيس «لجنة المصالحة الوطنية»، من أجل التخفيف من وطأة الميليشيات المتقاتلة في الشوارع، ودمجها في المؤسسات والحياة العراقية. وهكذا أنفقت ملايين الدولارات على الميليشيات، السنيّة والشيعية، من أجل سحب السلاح منها، وإبعادها عن الاقتتال. وفي العام 2010، بعد إجراء الانتخابات النيابية، ابتُدِعت «وزارة المصالحة الوطنية»، التي كانت حقيبتها للخزاعي، ضمن التوليفة الحكومية التي تورمت استجابة للطامعين في السلطة لتصل الى 43 وزيراً، رشِّقت اثر تزايد الانتقادات وأُلغيت منها عدة وزارات، بضمنها وزارة المصالحة، وعاد الخزاعي ليكون مستشار رئيس الوزراء لشؤون المصالحة الوطنيّة. وهذه المستشارية لها أموالها (لا يعرف أحد بالتحديد حجمها) التي تنفقها من أجل «إرساء روح المحبة بين العراقيين».

 لكن الفساد في المستشارية طغى على المحبّة، فاتهم الخزاعي بصرف أموال على «صحوات» ليس لها وجود فعلي على الأرض، فضلاً عن انفاقه أموالاً على ميليشيات ظلّت معارِضة للحكومة، من أجل اقناعها بالدخول تحت عباءة الدولة. وكان صرف هذه الأموال حبراً على ورق. ففي الوقت الذي تؤكد فيه الصرفيات أن الميليشيات اقتنعت برمي السلاح، كانت وتيرة عملياتها تتصاعد وتؤسس لشراكات فيما بينها من أجل احتلال المدن. لكن «الحاج» كما يطلق المقربون على المالكي، وكعادته، غض النظر كما هو متعارف عنه حين يُتهم أحد المقربين منه. وبعد سقوط الموصل بيد التنظيمات التي كانت الحكومة، عبر مستشارية المصالحة، تتفاهم معها، حار المالكي على من يرمي اللوم (الرجل يتسلم إدارة المخابرات ووزارة الداخلية والقيادة العامة للقوات المسلحة). في البدء كان تقديم القرابين الحل المثالي، فدفع بـ«59» ضابطاً إلى القضاء (أحدهم قال بأن أوامر بالانسحاب جاءته، وتساءل لماذا يُحاكم). لكن هذه الحجّة لن تكفي لإقناع الشارع العراقي، فلجأ الى النظرية الوحيدة التي تربّى على سماعها العراقيون: «هناك مؤامرة حصلت».

ترسيخ التفرقة

فعلياً، رسّخت الحكومات العراقية التي تعاقبت بعد عام 2003 مشروع عدم بناء الدولة، وجعلت الأمر منفلتاً حتّى لا تُعاب عليها أفعالها المخزية، وأخطاؤها الكارثية. وكان هذا ينغرس أكثر داخل المجتمع العراقي من خلال تحويل الحكومة ـ أي حكومة ـ إلى مجموعة من الأحزاب المتقاتلة فيما بينها، وغير المتجانسة في اتخاذ القرارات، الأمر الذي يهيء المواطن العراقي إلى إلقاء اللوم على حزب بعينه في أي حدث يحصل، بدل لوم الحكومة المتشكلة من سلة الأحزاب المشاركة في العملية السياسية. وهكذا، نأى المالكي (القطب الشيعي في الحكومة) بنفسه عن محاسبة جمهوره، وكذلك فعل النجيفي، القطب السني الذي كان يترأس البرلمان.

ظلّ مشروع المصالحة الوطنيّة في العراق بوابة ليست لاستدراج الخارجين عن القانون إلى داخل خيمة القانون، وإنما من أجل كسب ودّ العشائر والأفراد المؤثرين لصالح حزب في الحكومة. أي أنه يصبح طوع أمر هذا الحزب من أجل التوجه عبر أولئك الوجهاء بأصابع الاتهام إلى وجهاء الطرف الآخر الذي يناصب الحكومة العداء.

ولم تشمل المصالحة بطبيعة الحال الأفراد الذين يشعرون بالحيف من ممارسات الحكومة التهميشية، الأمر الذي زاد من رقعة الخلاف والبحث عن خيم أخرى غير خيمة الحكومة، ما أدى أيضاً إلى تعميق هوّة الخلاف بين فئات المجتمع التي تُضخّ لها الأفكار عبر المنابر الدينية والسياسية كلّ يوم.

في المحصلة، بعد مئة عام من الآن، ستدرس تجربة المصالحة الوطنية في العراق على أنها الأسوأ بين مثيلاتها التي حصلت في افريقيا واميركا اللاتينية، وسيتبين لدارسيها أنها عمّقت من حدة الخلاف، وزادت منسوب الدم في الانهار العراقية المتخمة بالجثث.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...