«ثورة الزنج» في العراق الديموقراطي

ازدهرت في بغداد إبان العصر العباسي سوق لبيع العبيد، عُرفت بـ«سوق الرقيق»، إذ ما إن يصل ذوو البشرة السوداء إلى أرض العراق، حتى كانوا يرحّلون للعمل في المزارع. إلا أن بعضهم اُعتِق بفضل الشرع الإسلامي، فتسلّم مناصب عليا ووزارات، فضلاً عن تنصيب العبد «خصيب»، الذي كان يسخن الماء للخليفة، والياً على أهل مصر عقاباً وتحقيراً للسكّان على ثورة فاشلة. لكنه سرعان ما أجاد الحكم
2014-06-04

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
من الانترنت

ازدهرت في بغداد إبان العصر العباسي سوق لبيع العبيد، عُرفت بـ«سوق الرقيق»، إذ ما إن يصل ذوو البشرة السوداء إلى أرض العراق، حتى كانوا يرحّلون للعمل في المزارع. إلا أن بعضهم اُعتِق بفضل الشرع الإسلامي، فتسلّم مناصب عليا ووزارات، فضلاً عن تنصيب العبد «خصيب»، الذي كان يسخن الماء للخليفة، والياً على أهل مصر عقاباً وتحقيراً للسكّان على ثورة فاشلة. لكنه سرعان ما أجاد الحكم وأسس مشاريع لا يزال الحديث عنها ماثلاً حتى اليوم. أما البصرة، فكانت تشهد في ذلك الوقت ثورة عارمة يقودها نفر من ذوي البشرة السوداء بقيادة عبد الله بن محمد، سُمّيت حينها «ثورة الزنج». لكنها هُزمت. ولم تتبدل الأحوال لغاية العام 1855 حين أصدر العثمانيون مرسوماً قضى بمنع تجارة الرقيق في جميع الأراضي الخاضعة لسلطتهم.
وإذا كانت بغداد آنذاك قد سلّمت سود بشرة مناصب ومراكز، فإن بغداد الآن أكثر عنصرية من ذلك الوقت. أما البصرة، موطن ثورة الزنج الاولى، فقد قمعت فيها «ثورة زنجِ» جديدة لم تستمر لأكثر من بضعة أشهر. والسياسة أحياناً مرآة المجتمع الذي ما زالت بعض شرائحه تطلق على ذوي البشرة السوداء تسمية «العبيد»، تحقيراً ينسحب على ممارسات اجتماعية كثيرة.

الزبيري.. المفترى عليه

يضم العراق نحو أكثر من مليونين من ذوي البشرة السوداء يتوزّعون على المذاهب الشيعية والسنية، وعلى بغداد ومحافظات مثل ذي قار وميسان والبصرة التي تشكل مركز وجودهم الأكبر، وتحديداً في قضاء الزبير الواقع على حدود العراق مع الكويت. يضم القضاء قرابة 300 ألف منهم بحسب حركة مختصة بحقوق السود، وقد درج لذلك إطلاق «زبيريّ» على كلِّ أسود بشرة نسبة إلى المدينة التي سُميت على اسم الصحابي الزبير بن العوام. يحافظ سود البشرة على جزء من ميراثهم الأفريقي الذي ينحدرون منه، مثل آلاتهم الموسيقية الايقاعية، ويعمل أغلبهم في مهن يدوية وعمّال بناء.
تنعكس النظرة الدونية لهم من قبل المجتمع في نواح كثيرة. فمثلاً، وعلى الرغم من حمى تغيير أسماء مدن ومعالم بغداد وبقية المحافظات العراقية، عقب الاحتلال في نيسان/ابريل عام 2003، كمدينة الصدر التي كان اسمها قبل التغيير مدينة صدام ومحافظة كركوك التي أطلق عليها النظام السابق تسمية محافظة التأميم وغيرها الكثير، إلا ان المناطق التي تسمى باسم قاطنيها من ذوي البشرة السوداء لم يشملها التغيير بسبب عدم اهتمام المعنيين بهذه الشريحة الواسعة داخل المجتمع، إذ بقيت تسمية «دور السود» كما هي، على الرغم من أنها تقع في المنصور، أحد أحياء بغداد الفخمة وعند أعتاب تمثال ابو جعفر المنصور الذي طالته موجة التغيير بتدميره كلياً دون الالتفات الى قيمته الفنية الكبيرة. كما أن «حارة العبيد» التي تقع في منطقة «الكسرة» في قلب بغداد وهي تغفو عند صرح حضاري وتعليمي مهم هو كلية الفنون الجميلة، بقيت على تسميتها بالرغم من أن سكانها لم يعودوا يقتصرون على من هم من ذوي البشرة السوداء.

بشرة سوداء دون ياقات بيضاء

اعتاد النظام السابق التفاخر بتمثيله رسمياً لألوان الطيف العراقي مثل العرب والكرد والتركمان والمسلمين والمسيحين والازيدية والصابئة... إلا ان نظرة متفحصة على تشكيلاته الحكومية على مدى خمسة وثلاثين عاماً تشي بأن هذه التشكيلات لم تضم في إحداها عراقياً من ذوي البشرة السوداء. وإذا ما استثني داود القيسي، نقيب الفنانين الأسبق، وهو واحد من المنتمين مبكراً لصفوف الحزب الحاكم ويُعتبر مغني الحزب الأول (قُتل بعد الاحتلال بيومين في منزله)، فإن قائمة المناصب العليا تكاد تخلو من هؤلاء. وينسحب الأمر ذاته على الوضع الحالي في العراق، إذ لم تضم قوائم الحكومات أو البرلمانيين أو القيادات الحزبية أحداً من هؤلاء المهمشين الذين لم ينتبه الى حقوقهم كعراقيين.انتقل هؤلاء إلى مرحلة جديدة عقب حلول «الديموقراطية» في العراق عام 2003، إذ في العام 2007، وبينما كانت رحى الاقتتال الأهلي تدور في محافظة البصرة أقصى جنوب العراق، أسّس ذوو البشرة السوداء في المحافظة البعيدة «حركة العراقيين الحرة» التي هدفت إلى تبني «المفاهيم الوطنية الديموقراطية والتقدمية» بحسب بيانها، لكنها هدفت أيضاً إلى إرساء الديموقراطية بشكلها الفعلي في البلاد، من خلال تعريف ذوي البشراء السوداء بحقوقهم كمواطنين في العراق الذي تجاوز عدد سكانه 30 مليون نسمة آنذاك، وان ما يتعرضون له كل يوم من وصفهم بـ«العبيد» مخالف للدستور الذي يساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن لونهم أو دينهم أو مذهبهم.
حاولت الحركة أن تكون اجتماعية وسياسية في آن معاً، فهي بالدرجة الأساس تذهب إلى المناطق التي تقطنها أغلبية من ذوي البشرة السوداء لتعريفهم بحقوقهم، فضلاً عن الترويج لنفسها كحركة سياسية تهدف الى دخول البرلمان لتمثيل أبناء جلدتهم. واجهت الحركة وقتذاك سيلاً من السخرية والاتهامات، وعد إعلاميون في البصرة الحركة بأنها تهدف إلى تأجيج الروح العنصرية عند ذوي البشرة السوداء، معتبرين أنها تهدف إلى خلق روح المظلومية من أجل الحصول على مكاسب ومناصب. أما السياسيون فلم يتوانوا عن القول بأن هؤلاء يحاولون القيام «بثورة زنج» جديدة.ظلّت تلك الحركة تعمل حتّى رشّحت 8 من أعضائها في عام 2009 لانتخابات مجالس المحافظات، فشلوا في الوصول إلى مقعد في المحافظة. بقيت الثورة صامتة حتّى جاء فوز باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة الأميركية بمثابة الإبرة المنشطة، احتفل «الزبيريون» في البصرة بهذا الفوز، وخرجوا بمسيرة عارمة من أجل إثبات وجودهم، كأن ذاك الفوز بمثابة اعتراف العالم بحقوقهم، فكيف بالحكومة العراقية التي أتى بها النظام الأميركي نفسه؟

اغتيال لوثر كينغ البصْريّ

أسوة بالكثير من الإحصائيات الغائبة في العراق، تغيب تلك العائدة الى أوضاع ذوي البشرة السوداء في البلاد، عدا ما توفره «حركة العراقيين الحرة» التي تعتمد على التكهّنات أكثر منها على ضوابط علميّة. تؤكد الحركة أن أغلب ذوي البشرة السوداء هم من الفقراء الذين يعانون تهميشا في مناصب الدولة وعنصريّة في المدارس وغيرها من القطاعات. وفي العراق، فإن التقاليد العشائرية التي تهيمن بدلاً من قيم الدولة المدنية، ما زالت تنظر إلى سود البشرة باعتبارهم من بقايا «عبيد» مضيف شيخ العشيرة الذين لا وظيفة لهم سوى تقديم القهوة ورعي الغنم، فقد خدم هؤلاء لغاية الخمسينيات في مضايف شيوخ العشائر، وبعضهم اندرج طوعاً تحت خيمتها مع تراجع دور الدولة والذي يجعل الإنسان الذي لا ينتمي إلى عشيرة ضعيفاً ومكشوفاً.
كان جلال ذياب أمين سرّ جمعية « أنصار الحرية الانسانية» أوّل من فطن إلى ذلك، فطالب بتصنيف ذوي البشرة السوداء كأقليّة في العراق، هي الأكبر بعد الأكراد بحسب قولهم. ظهر جلال فجأة على الساحة وهو يخاطب الإعلام ويلتقي بمسؤولي منظمات المجتمع المدني، وكان كلامه يعني عند كثيرين مجرد ترف في ظلّ مجتمع يُقتل أفراده كل يوم. وهو اتُهم بأن حراكه ليس حقيقياً بل خاضع لأجندات خارجيّة تحاول تفكيك المجتمع العراقي، لكنه أصر على التأكيد أن الديموقراطية تعني من بين ما تعنيه إلغاء التمييز، وأن الأوصاف التي يصف بها المجتمع ذوي البشرة السوداء هي تمييز، لكن هذا لم ينفع.كان جلال الذي علّق صورة مارتن لوثر كنغ فوق رأسه في مكتبه، لا يعرف أن موته سيشابه موت لوثر كنغ. كلاهما اغتيل. حدث ذلك في البصرة في نيسان/ابريل من العام الفائت. قاتل لوثر كنغ عُرف وألقي القبض عليه وحوكم جراء فعلته. أما جلال فقد ظل قاتله مجهولاً مثل معظم قتلة العهد «الديموقراطي». هكذا انتهت حياته دون صخب، وواجهت القمع «ثورة زنج» جديدة...

العبد والزبال

بعض هؤلاء السود ممن طحنتهم الحياة اعتادوا الكلمات العنصرية تجاههم بل واستدخلوها، فباتوا هم أنفسهم يروون النكت عن أنفسهم أو الأحداث التي حصلت معهم بسخرية كبيرة.
يروي حسين «الأسود» وهي كنيته بين معارفه - وهو عامل في مصنع مخللات، حادثة حصلت معه: ذات يوم تعرفتُ على فتاة عبر الهاتف وظللنا نتكلم حتى طلبت لقائي، فاستدللت على منزلها وقالت إنها ستقف خلف الباب لتراني عن قرب، وعندما وصلت المكان المحدد اتصلت بها قائلاً:
- مرحبا.. أنا في شارعكم هل ترينني؟
- أجابت على الفور: لا.. لا أراك وبعد إلحاح وتوضيح مني قالت: ليس في الشارع سوى عبد زبال.
فرددت مسرعاً: أنا هو!

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...