«ذاك المرض» الذي استوطن البصرة

يبتعد الناس أحياناً عن تسمية الأشياء بأسمائها، يستعيضون بالبلاغة والاستعارة. الرعب يفرض عليهم ذلك. لكن كل الحيل اللغوية لم تبعد «ذاك المرض» عن أجساد أهل البصرة في العراق، بل هو ازداد بشكل كبير في السنوات الماضية، حتّى أصبح جزءاً من يومياتهم وعليهم التعامل معه: إنه السرطان، الذي سرعان ما يُلحَق التلفظ بالإشارة اليه بمطّ الأذنين وزمّ الشفتين وإطلاق صوت ناعم من خلالهما في محاولة من
2014-05-28

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
من الانترنت

يبتعد الناس أحياناً عن تسمية الأشياء بأسمائها، يستعيضون بالبلاغة والاستعارة. الرعب يفرض عليهم ذلك. لكن كل الحيل اللغوية لم تبعد «ذاك المرض» عن أجساد أهل البصرة في العراق، بل هو ازداد بشكل كبير في السنوات الماضية، حتّى أصبح جزءاً من يومياتهم وعليهم التعامل معه: إنه السرطان، الذي سرعان ما يُلحَق التلفظ بالإشارة اليه بمطّ الأذنين وزمّ الشفتين وإطلاق صوت ناعم من خلالهما في محاولة من الأمهات لإبعاد شبحه عن أولادهن وأحفادهن.

«الذاك» رحلة نحو البداية

في العراق، لا تعني الحرب صوت القذائف والغارات والطائرات، ولا أيضاً الرعب والأمراض النفسيّة التي تخلّفها، ولا حتّى الفقر والدمار الاجتماعي فقط، وإنما ينسحب الأمر إلى الصحة، إلى الأجساد التي تنخرها أمراض لا يُعرف خلاص منها. وليس أكثر معرفة بالحرب في منطقة الشرق الأوسط من العراق خلال العقود الثلاثة الماضية، فهو الذي لم يسترح عبر خوضه ثلاث حروب كانت تتسلل إلى الأزقّة الضيّقة لتلد حروباً أخرى أكثر مأساوية. وكانت البصرة، بوابة العراق الجنوبيّة وحاضنة الموانئ العراقية، تحمل أوزار كل تلك الحروب على كتفيها.
ففي حرب الخليج الثانية العام 1990، كانت البصرة الأكثر تعرّضاً للقصف بسبب حدودها مع الكويت، وكان الجيش العراقي الذي ذهب غازياً عبرها، عاد أيضاً خائباً من خلالها، لكن تلك الخيبة جاءت محمّلة باليورانيوم المنضب، إذ استعلمت «القوّات المحرِّرة للكويت» (33 جيشاً من أنحاء العالم) تلك المادة المشعة المدمرة والمحرمة دولياً، من أجل إخراج الجيش العراقي مما احتل.
وهكذا ظلّت الدبابات والآليات العسكرية المعطوبة (كان هناك 3700 هدف تحت مناظير القوّات الأميركية تم تدمير 1400 منها بقذائف اليورانيوم المنضب) في ساحات البصرة دون أن تمتد إليها يد لتنظيفها أو طمرها، بالإضافة إلى القصف المستمر طوال نحو عام من الحرب. خلّف اليورانيوم حوالي 1160 إصابة بالسرطان خلال عقد التسعينيات، كانت البلاد حينها تئن وتهرم تحت سياط العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة، ولم يكن أي علاج متوفر لكلِّ هؤلاء المصابين، لكن مأساة البصرة لم تنتهِ هنا.

«الذاك»... مستمراً

في نيسان/إبريل عام 2003، مع دخول القوّات الأميركية إلى العراق، اشتد القصف على البصرة وكان الجيش الأميركي أكثر فتكاً في هذه الحرب من حربه السابقة، على الرغم من ذريعته التي حمل شعاراتها أمام العالم بأنه جاء ليحرِّر العراق والعراقيين من الديكتاتورية. وبهدف الدخول إلى المدن العراقيّة بأسرع وقت ممكن ودون خسائر كبيرة بين صفوفه، استخدم الجيش الأميركي مرّة أخرى سلاح اليورانيوم المنضب، لا سيما بعد أن واجه مقاومة كبيرة استمرت لأكثر من 17 يوماً حين وضع قدمه في مدينة أم قصر، المتاخمة للكويت، وهي ثغر البصرة المطل على الخليج العربي. لكن هذا ليس وحده ما ساعد على جعل البصرة مدينة ملوّثة بالكامل باليورانيوم، فثمّة عوامل أخرى. فحتّى عام 2004، كان بإمكان سلطة الاحتلال، وضمن مسؤولياتها القانونية، السيطرة على عدم اتساع التلوّث في المدينة، إذ سجّل الباحث البيئي الأميركي خاجاك فروير وارتانيان 73 موقعاً ملوثاً في البصرة وحدودها، وأخبر حينذاك دائرة بيئة البصرة بالمواقع لتتخذ إجراءاتها، لا سيما أنها مواقع جديدة، وما زالت تحت إشراف الأمم المتحدة. لكن الاحتلال عمد الى تشريع النهب المنظم كما شرَّعه في بغداد، من خلال تركه الدوائر الرسمية عرضة للسرقة والحرق، إذ، وبحسب وارتانيان، فإن سلطة الائتلاف الموقتة أجازت مشروع «مايك اوشاي» الذي يسمح لكل مواطن بالحق في جمع وبيع وتصدير المخلفات العسكرية (وهي في غالبها ملوَّثة باليورانيوم) من دون كيفية أخرى. وهكذا أخذ البصريون ما ظنوه ثروات إلى منازلهم، فانتشر السرطان كما تنتشر النار في الهشيم. وبعد أن نُقلت المخلفات إلى المناطق السكنية، اكتشف فريق بحثي عراقي، بعد مسح ميداني في عام 2005، وجود تلوث إشعاعي في التربة وفي بعض النباتات بتركيز متباين من نظيري الثوريوم 234 والراديوم 226 والبزموث 214 يفوق المعدل الطبيعي الذي يجب توافره في التربة.

أعداد «الذاك»... متصاعدة

وأخذت حالات السرطان بالارتفاع، ففي عام 2003، سجلت البصرة حوالي 206 حالات من السرطان، وفي العام الذي شرّع فيه الاحتلال للمواطنين تداول المخلّفات العسكرية قفز العدد إلى الضعف، إذ سُجّلت حوالي 679 حالة، وفي عام 2005 بلغت الحالات 754 حالة، وفي العام الذي تلاه كان الرقم مرعباً إذ عاد ليتضاعف ويسجّل 1441 حالة، وليستمر تصاعد الحالات على هذه الوتيرة حتّى عام 2009 الذي ظهرت فيه آخر إحصائية لوزارة الصحّة وكان عدد الحالات 1205 حالات، وبمعدّل إصابة لكل 100 ألف مواطن بحسب الجهاز المركزي للإحصاء، و70 إصابة لكل 100 ألف مواطن في السنة، بحسب كلية الطب في جامعة البصرة. لكن الكارثة الأكبر هي تحذير الهيئة الدولية للبيئة والطاقة في الأكاديمية الملكية الدولية، من أن نصف سكان البصرة سيصابون بأمراض سرطانية في حدود عام 2020. هذه الأمراض المتزايدة، والتخوّف من اتساعها يأتيان بسبب حوالي 400 طن من اليورانيوم المنضّب، تقيأتها الطائرات الأميركية وتركز أغلبها في محافظات الجنوب، وفي البصرة بشكل خاص، وفق مؤسسة «بيس غروب» الهولندية.

«الذاك» صوت انتخابي

قبيل أربعة أعوام من الآن، كان في البصرة مركز كامل المعدّات لمعالجة السرطان، إلا أن النقص في الكوادر الطبيّة حال دون افتتاحه. موعد الانتخابات التي جرت في نيسان/ابريل من هذا العام، كان لا بد لها من أن تعجّل في تشغيله: بثّت وكالات الأنباء خبر افتتاح محافظ البصرة للمركز بكلفة 166 مليون دولار. إلا أن «انجازا» مثل هذا لن يمرّ دون تسويق سياسي. فبعد أسبوع من الافتتاح الأول، عاد رئيس الوزراء نوري المالكي ليفتتح المستشفى مجدداً، بالإضافة إلى «مشاريع» عديدة أخرى في المحافظة. تزامنُ الافتتاحين إذًا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية يعني أن الأمر لا يتعلّق بمرضى السرطان، بل بالدعايات الانتخابية.
وفي البصرة التي تُنتج حوالي 80 في المئة من نفط العراق، لا يوجد غير هذا المركز الذي يكلِّف العلاج فيه حوالي 1100 دولار أميركي، بحسب المحافظ، الذي قال ان كلفة العلاج خارج البلاد تكلّف 11 ألف دولار. لكن ما الذي سيفعله هذا المركز وسط تزايد عدد المرضى؟ وكم سيخفّف من آلامهم؟ هذا ما لا يعرفه أحد. بمقابل هذا، أين وصلت مساعي تنظيف المواقع الملوّثة في البصرة التي تعد المسبب الرئيس في كل هذه الأمراض؟... الجواب مبهم أيضاً.
في زيارة لي قبل شهرين للبصرة، يخبرني أحد الأصدقاء هناك، أن البصرة التي تنفق على العراق كلّه من خلال نفطها، لا تحمل لأهلها سوى الفقر والسرطان، ساخراً: «لكم النفط... ولنا السرطان».
           

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...