انتفاضة الناس في فرنسا: "الربيع العربي" في الأذهان!

كما بدأ تحرك السترات الصفراء في فرنسا كـ"مفاجأة غير متوقعة" بينما كانت أسبابها كلها حاضرة فعلياً، فإن الربيعات العربية يمكن ان تزدهر في أي وقت - كما فعلت في 2011 - وتفاجئ من يظنون أن الأمور استتبت لهم. هذا تعريف الحدث التاريخي!
2018-12-14

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
في ميدان التحرير في القاهرة، في شباط 2011

منذ أكثر من شهر، وكل يوم سبت، يتجمع مئات ألوف الفرنسيين في الشوارع على امتداد البلاد. يرتدون سترات صفراء مخصصة عادة للفت الأنظار في الطرقات أثناء الليل.. وهو لباس، عدا رمزية معناه (ربما لمساعدة الحكومة على الرؤية ومنعها من سحق الناس كما في حوادث السيارات!)، مما يمتلكه عملياً كل الناس وبيسر.

خليط فيه كل الناس، شباباً وشيباً، موظفين وعمالاً يُعتبرون من متوسطي الحال بكل فئاتهم، الذين تفقرهم إجراءات ماكرون وحكومته الموغلة في الانحياز للبنوك والاغنياء (وهو ألغى عند مطلع استلامه للسلطة "الضريبة التضامنية على الثروات الكبيرة" – ISF - المعمول بها منذ 1982 والتي درت مثلاً5919 مليار يورو في 2014). كما تضم عاطلين عن العمل. وبين هؤلاء جميعاً من هو مسيّس، ومن هو قلق فحسب على مستقبله ومستقبل أولاده، ومن هو ببساطة جائع! وقد ظهرت في سياقها شديد الغضب، شعارات طريفة وموجعة في آن: قال لهم الرئيس الفرنسي أن الضريبة على المحروقات التي فرضها على الجميع "بالتساوي" (وكأن من يضطر للذهاب الى عمله بسيارته المتواضعة لأن المئات من محطات القطارات وباصات النقل المشترك ألغيت من الضواحي والأرياف "لعدم مردوديتها"، يساوي من يستخدم السيارة ترفاً!).. هذه الضريبة هي لمحاربة التلوث ولدرء "نهاية العالم". فأجابوا انهم قلقون على تدبر "نهاية الشهر"! وأجابوا بكاريكاتورات يظهر أحدها برّاداً فارغاً إلا من بعض الخبز في أول رسم، يليه البراد الفارغ إياه وانما مضافاً الى الخبز جزرة! وكان هذا هو الرد البليغ على ما أعلنه الرئيس الخارج أخيراً من صمته المتعالي، الذي اضطر لمراجعة قراراته، بعدما جرب وحكومته التجاهل والإزدراء والاستخفاف، كتكتيك يبغي الاذلال أو "الحكْرة" كما يقال في المغرب، وكواحد من أدوات الاخضاع الفعلية التي لا تقل أهمية عن الإفقار والقمع. وكان وزير الداخلية قد هدد بإعلان الطوارئ ثم بإنزال الجيش، كما قامت الشرطة بتوقيف الآلالف ليس في المظاهرات نفسها فحسب بل احترازياً. وقد تم اللجوء، ومنذ اليوم الاول الى عنف بوليسي استثنائي، فجرى استخدام مكثف لقنابل الغاز المسيل للدموع وللطلقات المطاطية ولقذائف بنادق "فلاش بول" (والتهديد باستخدام الرصاص الحي!)، مما اوقع فعلا آلاف الجرحى، العشرات منهم في وضع سيئ. ولكن ذلك كله فاقم الغضب المتفجر، واظهر عجز الشرطة وارتباك خططها للسيطرة على الموقف.

بالمقابل يعتد ماكرون وحكومته بعنف المتظاهرين، وبوجود "مندسين" بينهم، يحطمون المحلات ويسرقون ويحرقون (هل لاحظتم تشارك السلطات في استخدام الأدوات ذاتها؟ يظهر ذلك على طول الخط!). وقد رد المتظاهرون ومن يساندهم من المثقفين - وهم كثر - بأن "الحكومة تقر بحق التظاهر وبمشروعية الغضب من الحال البائس، ولكنها تريد متظاهرين مهذبين"! كما قامت السلطات باستخدام مكثف للتشويه والتخويف والإشاعات من قبل الأدوات الإعلامية التي أصبح جلّها (صحف كبرى وقنوات تلفزة وراديو) ملك لكبار الشركات المالية التي تستثمر فيها، فيما شغلها الأول هو انتاج سلع متنوعة يمكن أن تكون الثياب الفخمة والعطور، أو المضاربات العقارية، بل وحتى صناعة النفط أو السلاح والاتجار بهما! ولكن وسائط التواصل الاجتماعية عوضت بشكل فعلي، وفعال الى حد بعيد ذلك، الانحياز الاعلامي للسلطة ولكبار المقاولين.

وقد رافق هذا التحرك العام المتعاظم أسبوعاً بعد آخر (حجماً ومطالباً، حيث تمّ تجاوز مسألة الغاء الضريبة الجديدة على الديزل الى مطالب أخرى تخص رفع الحد الادنى للاجور واعادة الضريبة على الثروات الكبيرة.. والمطالبة باستقالة ماكرون)، تحرك للتلامذة والطلاب واحتلالهم لأبنية مدارسهم وكلياتهم (يشمل المئات منها). وما بدأ احتجاجاً على رفع رسوم التسجيل على الطلاب غير الأوروبيين (اعتبره الطلبة انتهاكاً لمبدأ الحق في التعليم والمساواة حياله) انتهى الى مطالب عامة تخص شروط التعليم بل وشروط الحياة في البلاد التي تزداد صعوبة وانغلاق أفق.

ولكن السلطة في سياق اندفاعتها المستميتة لتمرير قراراتها ارتكبت خطأ جسيماً بحق تلامذة احدى الثانويات (اسمها "سانت اكزوبيري" على اسم مؤلف "الأمير الصغير"!) في ضاحية بلدة "مانت لا جولي"، الفقيرة والتي اشتهرت في انتفاضات الضواحي منذ سنوات خلت: اركعت لوقت طويل 147 صبياً وصبية هم جميع تلامذة هذه الثانوية، بعضهم وجهه مداراً الى الحائط، وجميعهم مشبوكي الأذرع فوق رؤسهم، يحيط بهم 70 شرطياً مدججاً بالسلاح، مع السماح لمصور بتسجيل الواقعة وهو يتهكم! دار الفيديو على وسائط التواصل الاجتماعي وتناقله مئات الالوف، ونشرته المواقع الالكترونية لعدة صحف، بل واحتل غلاف صحيفة "ليبراسيون"، وأثار الاستنكار لـ"إذلال الشبيبة"، وركع الآلاف بعد ذلك في التجمعات الجارية في مختلف انحاء البلاد تضامناً مع الفتية والفتيات المهانين.

وقد ضاعف المسلك من الهياج العام.. ومن القناعة بأن الحكم الحالي ينفذ باستعجال وتصميم سياسة لصالح الاكثر غنى، وهي القناعة التي اطاحت بشعبية ماكرون. فقد تأسس انتخاب الرئيس الحالي على انه مخرج من مأزق سياسي مستعصي.. وحمل هذا الملمح بعض الإعلاميين على مقارنة تلك اللحظة بانتخاب السيسي في مصر الذي بدأ محقِّقاً لما يشبه الإجماع ثم راح يتقهقر بسرعة. بل يبدو ان السلطات في مصر وفي تونس قد حظرت بيع السترات الصفراء مخافة المحاكاة!

إلا أن عناصر المقارنة تتجاوز هذا المجال الى تشابهات في بنية التحرك نفسه، ومكوناته، ووسائله، وحتى محفزاته، ما دفع المرشح الرئاسي الفرنسي السابق "بنوا هامون" للقول في مقابلة مع صحيفة لوموند أن تظاهرات السترات الصفراء "تشبه الربيعات العربية". والمؤكد أن تلك اللحظة من 2011 في المنطقة العربية قد دخلت العقول بوصفها "حدثاً تاريخياً"، بغض النظر عن مآلاته اللاحقة.

وكما حدث تحرك السترات الصفراء في فرنسا كـ"مفاجأة غير متوقعة"، بينما كانت أسبابها كلها حاضرة فعلياً، فإن الربيعات العربية يمكن ان تزدهر في أي وقت – كما فعلت في 2011 - وتفاجئ من يظنون أن الامور استتبت لهم. هذا تعريف الحدث التاريخي!

مقالات من العالم العربي

ميلادٌ آخر بلا عيدٍ

2024-12-26

وجّه الأب "منذر إسحق" رسالة الميلاد من بيت لحم إلى العالم، قائلاً: "احتفالات الميلاد ملغاة. لا وجود لشجرة ميلاد، للأضواء، للاحتفالات في الشارع... من الصعب تصديق أننا نعيش ميلاداً آخر...

للكاتب نفسه

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...