في عام 2009 أخذَ طالب في قسم الفنون التشكيلية في كليّة الفنون الجميلة ببغداد، يُغرِق في رسم لوحات واقعيّة غالبها مُستقى من صور فوتوغرافيّة يجمعها من الانترنت. سيّدة مستلقية على كرسي. رجل يأكل. شجرة في مهب الريح. لوحاته جميعها كانت على هذه الشاكلة، لا مخيّلة فيها، الأمر الذي أزعج أستاذه فطالبَه بأن يرسم لوحات تجريديّة وسورياليّة. فما كان من الطالب إلا أن رفض بشدّة وأصر على الرجوع إلى الواقع للردّ على أستاذه بحجّةٍ أسكتته: "هل نظرت إلى تفجير سوق الغزل؟ طيور تنزف إلى جانب أقفاصها.. وجثث مرميّة على جانب الطريق.. وأفاعٍ تتحرّك مجروحة. الدم يسيل في كلِّ مكان.. الواقع أكثر سوريالية من الخيال"، ثمّ أردف: "وماذا بعد التخرّج؟".
لم يكن تفجيراً وحيداً ما تحدّث عنه الطالب وإنما أربعة تفجيرات تعاقبت بين أعوام 2006 و2008 على سوق "الغزل" لبيع الحيوانات الأليفة والوحشية. كانت تفجيرات مُرعبة بحقّ لأنّ دماء الحيوانات اختلطت مع دماء العراقيين المسفوكة، والطالب بدا محقّاً في تعطّل مخيلته وفي يأسه بعد التخرّج أمام هذا الهول والأهوال الأخرى التي تتناسل في أيام العراقيين. وقد يكون انضمّ إلى طابور العمل الأكثر شيوعاً، وهو قيادة سيارات الأجرة، حتّى تتوفّر فرصة وظيفية في دوائر الحكومة..
اليأس والأهوال وضعف الحيلة تدفع إلى عطب المخيلة والإبداع في العمل والحياة. وهذا لا يتوقّف على الفنانين، فآليات إدارة السلطة والأحداث المرعبة التي تجري نتيجة فشلها تؤثِّر بالجميع على حدٍّ سواء. وإذا ما كان الفنّ العراقي، الذي ما زال يُجاري الفن العالمي في حداثته، يعوّض بإرثه هذا نقص غياب طلاب ومبدعين جدد، فإن حياة العراقيين، ولاسيما الشباب منهم، تظلُّ راكدة بعد أن غابت عنها المخيلة في التطلّع إلى المستقبل وإلى خلقِ الأحلام والسعي إلى تحقيقها. كما تغيب عن مخيلة الشباب - وهذا الأساس - النظرة السياسيّة لكيفية تغيير الأحوال من سديم اليوم إلى الأفضل في المستقبل، لاسيما بعد أن لوّثت السلطة أيام العراقيين بنمط الحكم القائم وصورته على أنه يشتمل على الديمقراطية التي تتوفّر على الحريّات والتداول السلمي للسلطة والرفاهيّة، مُحاجِجَة بأن ما عطّل تنفيذ هذه الأساسيات في "الحكم الرشيد" هو بعض "الممارسات الخاطئة".
بيد أن الواقع مخالف تماماً لهذا الخطاب، فيأس الطالب هذا ورفاقه الكثر كان نتاج أعوام اتخذت فيها الأحزاب السياسية العراقيّة الحاكمة آليات مدروسة لتسيير شؤون حُكم العراقيين. فالحكومات المتعاقبة على العراق بعد احتلال بغداد في نيسان / أبريل عام 2003 سارت في ما يمكن تسميته "تنميط الحياة" عِبر تحديد خيار "العيش الرغيد" مُحوِّلة المواطنين إلى فئات مقسمة على درجتين. مثّل الموظفون في المؤسسات الحكومية الدرجة الأولى، باعتبار أن الوظيفة هي حلم لرواتبها الجيّدة وأوقات عملها المحددة، وهي مهما جرى في البلاد من أحداث أمنيّة وعُطل ستدرُّ راتباً ثابتاً في نهاية كلّ شهر. أما امتيازاتها فهي وفيرة ومتشعبة، فالمؤسسة الحكومية تُؤمِّن موظّفها ماليّاً في التعاملات المصرفيّة والماليّة من خلال كفالتها له، وهناك أيضاً سعي الحكومة إلى منح الموظفين قطع أراضٍ وشقق سكنيّة من أجل إعادة انتخابها والتمسّك بها. علاوة على أن الوظيفة تحدد تقاعداً لنهاية الخدمة، والهويّة التي يحملها الموظف والتي تبيّن انتماءه إلى مؤسسات "الدولة" تنجيّه، في الكثير من الأحيان، من مُساءلات الحواجز الأمنية التي تنتشر في طول العراق وعرضه.
بمقابل هذا، هناك العراقيون من الفئة الثانية الخارجين عن الوظيفة، أي بلا أي ضمانات أو استحقاقات بموجب وظائفهم. فهؤلاء، علاوة على كونهم عادة ما يتمّ استغلالهم في الأعمال الخاصة القليلة المتوفّرة في العراق، فإنهم بلا راتب تقاعدي والعُطل تأكل من رواتبهم، كما أن تسريحهم في أي لحظة يَمرُّ دون أن يحظى بمحاسبة. هؤلاء لا يُشملون بأي خطّة إسكانية تعلنها الحكومة، فضلاً عن أنهم بحاجة إلى موظفّ يغطّيهم مالياً أمام المصارف الحكوميّة والأهلية، في حال كانوا بحاجة إلى أيِّ تعامل معها.
سحر الوظيفة الحكومية أدّى إلى الركض خلفها حتّى من قبل الميسورين. الجميع في العراق يتحدّث عن الوظيفة الحكوميّة وكأنّها الخلاص من هلاك البلاد الأمني والسياسي الذي يهدد سوق العمل الخاص الشحيح أساساً. صحيح أن هذا الواقع كان ملازماً للدولة الريعية في تاريخ العراق الحديث، وظلّ اقتصاد السكّان مرتبطاً بالدولة، إلا أن الصحيح أيضاً أنه لم يكن بهذا العدد (نحو 4.5 ملايين موظف في الحكومة ونحو 3 ملايين متقاعد). كما أنه كان هناك للعراقيِّ ممكنات للتحرِّك كوضع ضوابط على تدفّق السلع، وتوفّر الخدمات الأساسية من الماء والكهرباء والوقود، فضلاً عن توفّر الحماية لرؤوس الأموال المحليّة من العصابات الإجرامية.
غالبيّة الشبّان العراقيين، وهم يشكلون حوالي 40 في المئة من المجتمع العراقي، يسيرون في خطوات ثابتة ومحدّدة مسبقاً تنطلق من سنين مراهقتهم حيث يبدأون في رسم وتخطيط مستقبلهم وفقاً للمعادلة التالية: النجاح أولاً في البكالوريا ومن ثم الدخول إلى إحدى الجامعات والتخرّج بعدها للحصول على وظيفة في إحدى دوائر الحكومة، ويحبّذ أن تكون في دوائر الرئاسات الثلاث ذات الرواتب المرتفعة مقارنة بالوزارات الأخرى. وعدا ذلك لا يشعر الشاب العراقي أنه في مأمن!
وتتدخّل السلطة العراقيّة في إيجاد وظائف للخريجين من الجامعات العراقيّة، وأولئك الذين لم يتموّا دراستهم بموجب "استراتيجية التخفيف من الفقر" التي انطلقت في عام 2007.
قامت الحكومات المحليّة بتوزيع سيارات أجرة، بمئات الآلاف (وزع مجلس محافظة بغداد لوحده 20 ألف سيارة أجرة على العاطلين عن العمل في عام 2015). وهكذا صار ركاب سيارات التاكسي يسمعون شكاوى السائقين من أنّهم من حملة الشهادات وينتظرون أن يأتي دورهم للحصول على الوظيفة الحكوميّة. أما وزارة العمل والشؤون الاجتماعيّة فاتخذت خطّة (لاحها الكثير من الفساد) تتلخّص بتوزيع قروض ميسّرة لافتتاح مشاريع محدّدة: "ميني ماركت" أو محل نجارة أو حدادة أو ما شابه من أعمال. ورغم عدم وجود إحصائيات كبيرة بشأنها، إلا أن مصدراً في الوزارة أكد منح أكثر 11 ألف شخص في عام 2015 هذه القروض، وتراوحت مبالغها بين 3 آلاف دولار إلى نحو 8 آلاف دولار.
ملأت سيارات الأجرة الصفراء الشوارع العراقية وزاد تكاثرها من معاناة السائقين الذين لا مهنة لهم سواها بسبب زيادة العرض في الشارع أمام الركّاب، فيما لم تحظ أعمال النجارة والحدادة والمهن اليدويّة الأخرى حتّى بشرف المنافسة في سوق متخمة بسلع مستوردة تدخل بلا ضريبة وتتوفر لها في بلدان تصنيعها البُنى التحتيّة والتكنولوجيا الصناعيّة الحديثة، الأمر الذي يجعلها أرخص من المنتج المحلّي. وإزاء هذا، يتمُّ الاستمرار بإعلان موت "استراتيجية تخفيف الفقر" من قبل السياسيين مع أن العمل جار بها إلى هذه اللحظة.
وفي الواقع، فإن الاحتجاجات والتظاهرات الكبيرة التي تعمُّ مُدن العراق منذ تمّوز / يوليو تفتقر إلى التفكير بالشكل الذي يجب أن تكون عليه الدولة العراقيّة الجديدة. صحيح أن الحراك شهد تحوّلاً من الطائفية إلى الطبقية، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن هؤلاء المعدمين الخارجين إلى الشوارع يحمل غالبهم البذرة الأساس التي زرعتها فيهم السلطة وهي عطب المخيلة. فغالبيّة هؤلاء الغاضبين ناقمين على عدم حصولهم على وظيفة حكوميّة، وهم يسعون إلى الحلول محل أولئك الذين حصلوا عليها.