الإحساس العام في" تونس الديمقراطية" هو أن الوضع الإجتماعي والإقتصادي صار لا يُحتمل، على نحو جعل من البلاد وكأنها في حالة حرب . لكنها حرب صامتة. والحروب الصامتة هي أكثر الحروب دماراً، حيث تعيش الطبقات الشعبية واقع البلاد بوصفه جحيمياً، بلا أمل في الأفق، مع تزايد حدة الأزمة الإقتصادية والصراعات السياسية المتجهة نحو تدمير "التجربة الديمقراطية"، إضافة إلى النزوع المستمر الى إفراغ الديمقراطية من أي مضمون إجتماعي وتحويلها إلى "واجهة" تستفيد منها الأوليغارشيات المالية الجديدة. لهذا تفكر غالبية الشبان التونسيين بالهجرة حتى لو كان مقابلها الموت في عرض البحر الأبيض المتوسط. الهجرة هنا طريقة في الاحتجاج، وبحثاً عن أفق للعيش داخل نطاقات الاعتراف والكرامة الإنسانية. ذلك أن الصراعات والإحتجاجات الشارعية التي يخوضها التونسيون، وتحديداً فقراء الطبقة المتوسطة الذين ولدتهم وصنعتهم النيوليبرالية، هي صراعات من أجل الاعتراف، ولكنها أيضا من أجل إعادة توزيع الموارد الإقتصادية وإمكانية الولوج بشكل عادل لمجتمع الإستهلاك المديني. فقد صارت الدولة النيوليبرالية ترمي بهم في "الهوامش الحضرية"، بعد أن صارت إمكانية تحقيق الرفاه متوفرة فقط لمن لديهم القدرة على الاستفادة من تقاطعات السلطة والفساد. حتى أن ضمان الاستمرار بالعيش صار يتطلب نوعاً من الجهد للحصول على موقع خارج النطاقات القانونية والمؤسساتية، وأخْذ ما يكفي من الريع الذي يدره الفساد.
معارك ليست فكرية كما تبدو
فبعد سقوط بن نظام بن علي، تصاعدت المعارك الإيديولوجية والسياسية الطاحنة. لكن القراءة المتأنية لتلك المعارك لا يمكن أن تكتفي بالملاحظة الساذجة التي تعتبرها من صميم الديمقراطية، في حين أنها على النقيض من ذلك، تعبير عن صراع مصالح وقوى مالية مستفيدة من انفتاح الحقل السياسي في تونس الذي يمكن الولوج إليه من منطلقات عديدة أهمها تبييض الأموال الآتية من التهريب والمضاربات والتحايل من كل نوع.
انفتاح الحقل السياسي - وهذا من المفارقات - لم يرسِّخ الذهنية الديمقراطية، بل تحولت السياسة بمقتضاه إلى سوق لتبادل المنافع. لقد تشعبت العلاقات الزبائنية واتسعت شبكة الولاءات. البعض منها أعيد تشكيله والبعض الآخر جديد. صحيح أن الديمقراطية ليست معطاً جاهزاً بل صيرورة وتجربة تاريخية غير منتهية، لكنها في سياق البنى الذهنية التسلطية، سواء تلك السياسية أو الثقافية، التي كانت تحكم مجتمعات الجنوب (ولا تزال) فالتجربة الديمقراطية في تونس تلدو صيرورة متعثرة، وهذا ينطلق من كونها لم تجب بعد بشكل فعال عن الأسئلة المتعلقة بالمسألة الإجتماعية، فتبدو هذه الديمقراطية الناشئة في تونس من دون أي مضمون إيديولوجي، سواء كان ليبرالياً أو إجتماعياً. إنها تبدو أقرب إلى " ديمقراطية البين بين"، حيث تتجه الدولة إلى دعم الخيارات النيوليبرالية المتعلقة باقتصاد السوق، وفي الوقت ذاته تعتمد على الريع (المتمثل ببعض الثروات الطبيعية) وعلى إعادة توزيعه بالتشغيل في الوظيفة العمومية.
صار للنظام المُعاد تشكيله في تونس الخبرة الكافية لامتصاص الغضب بشتى الطرق، لكن هذا لم يقلِّص من حجم الشعور المتزايد بأن الأمور تسير نحو الأسوأ، وأنها يجب أن تتغير حتى ولو عن طريق ثورة جديدة.
كما يسود الإعتقاد لدى جزء كبير من الطبقات المتوسطة أن الدولة قد تخلت عنهم وـنهم صاروا بلا سند ويفقدون شيئاً فشيئاً امتيازاتهم القديمة التي كانت تمنح لهم من النظام السابق والمتمثلة في معادلة "الرفاه مقابل الصمت". أما اليوم فترى الفئات التي لم تستفد من التحول الديمقراطي، أن حرية التعبير صارت مقابل الفقر والبؤس المتنامي. ويستفيد من هذا الامر ويستغله النظام القديم لتشديد قبضته على السلطة، في حين لم يغادر اليسار "مربعه الأول"، مربع الإحتجاج، ولكن هذه المرة من تحت قبة البرلمان. ولذا فجل الحركات الاحتجاجية خارجة عن تأثير اليسار بل هي حركات بلا قيادات إيديولوجية، غالباً ما يقودها فقراء الطبقة المتوسطة، وأحيانا أخرى الاتحاد العام التونسي للشغل. وهي حركات عادة ما يتم التعتيم عليها أو تشويهها إعلامياً على نحو يفقدها شرعيتها، وقد صار للنظام المعاد تشكيله في تونس الخبرة الكافية في امتصاص الغضب بشتى الطرق، لكن هذا لم يقلص من حجم الشعور المتزايد بكون الأمور تسير نحو الأسوأ وأنها يجب أن تتغير حتى ولو عن طريق ثورة جديدة.
فقراء الطبقة المتوسطة
يخوض "الاتحاد العام التونسي للشغل" هذه الأيام إضراباً عاماً في قطاع الوظيفة العمومية بعد أن رفضت حكومة يوسف الشاهد طلب الزيادات في الأجور. الاتحاد هو ممثل الطبقة المتوسطة التي صارت تعيش تهديداً جدياً من قبل قوى السوق، التي تدعمها حكومة يوسف الشاهد تحت مسمى" الإصلاحات الكبرى" وهذا يعني في قواميس النيوليبرالية الاكتفاء بالحد الأدنى من الخدمات العمومية (صحة، تشغيل، تعليم.. الخ) وأن "كل شيء له ثمن" وأن البقاء لمن هو "قادر على الدفع". مقابل ذلك تعلن الحكومة "حرباً على الفساد"، وهي بلا معنى في ظل سياسات الإفقار. ذلك أن الفساد ينتعش في البيئات المفقرة إقتصادياً بدليل تنامي الاقتصاديات غير النظامية في تونس التي تتحكم فيها "لوبيات" مالية تعمل بكل ما أوتيت من قوة على إضعاف الوسائط الرقابية للدولة وعلى تحويل مقولة "الحرب على الفساد" إلى لعبة تسويقية لا غير. في ظل هذا المناخ تشعر الطبقات المتوسطة المدينية أنه قد غُدِر بها وجرى التلاعب بها سياسياً. فمن ناحية كانت قد شاركت بفاعلية في احتجاجات كانون الاول/ ديسمبر - كانون الثاني/ يناير 2011 التي أطاحت ببن علي، وفعلت ذلك من خلال تحالف موضوعي مع مهمشي المناطق الداخلية وفقراء الأحياء الشعبية. وهو تحالف فُكّ بمجرد سقوط النظام (أعلنت حينها مجموعة من متساكني الضواحي الشمالية الفخمة في تونس العاصمة عن تجمع في "القبة" في ضاحية "المنزه" ودعت إلى استئناف العمل).
تُخرِّج الجامعات التونسية سنوياً 80 ألفاً يذهب معظمهم إلى البطالة (يوجد حالياً 250 ألف عاطل عن العمل من حملة الشهادات الجامعية)، وما يتبقى يذهب إلى سوق عمل يتسم بالهشاشة المهنية على نحو يجعل من الواقع المهني الجديد للطبقات المتوسطة غير مستقر.
وهي تعلم أنه، ومن ناحية أخرى، قد تمّ توظيفها في المعركة ضد الإسلاميين من قبل "نداء تونس" الذي ما لبس أن تخلى عن التزاماته الحداثية تجاهها، وتحالف مع الإسلاميين وفق منطق التوافق. في خضم هذا، تجد الطبقة المتوسطة نفسها في دائرة الفقر بعد ثماني سنوات من الثورة، مقابل ازدياد الأثرياء الجدد المستفيدين موضوعياً من الأزمات الحاصلة. والطبقة المتوسطة في تونس، مثل غيرها من الطبقات المتوسطة في المنطقة، هي صنيعة دولة الإستقلال، ولكنها أيضاً وليدة عصر نيوليبرالي، الرفاه فيه تحدده سطوة الأسواق. هي طبقة إستفادت من فرص التعليم حيث تُخرِّج الجامعات التونسية سنوياً 80 ألف خريج جامعي يذهب معظمهم إلى البطالة (يوجد حالياً 250 ألف عاطل عن العمل من حملة الشهادات الجامعية)، وما يتبقى يذهب إلى سوق عمل يتسم بالهشاشة المهنية على نحو يجعل من الواقع المهني الجديد للطبقات المتوسطة غير مستقر.
بالمقابل فإن سقف طموحات فقراء الطبقة المتوسطة يبدو عالياً نتيجة انفتاحها على ما تتيحه حركة العولمة من قيم وآمال، في حين أن واقعها يتسم بالبؤس والشعور بالاختناق، وأن الأمور لا تسير في الإتجاه الإيجابي. الشعور بالفجوة بين سياسات الواقع وسياسات الحلم يعمِّق الإحساس بالضيم واللامساواة وغياب العدالة، وهذه كلها محركات للغضب. أفراد الطبقة المتوسطة في تونس واعون جدا بالإمكانات الموجودة في العالم، لهذا يتزايد لديهم الحلم بالهجرة (10 آلاف مهندس غادروا البلاد)، من يقدرون على ذلك يغادرون بالطرق النظامية، ومن تعوزهم الإمكانية لا يبقى أمامهم من خيار سوى الهجرة غير النظامية بكل مخاطرها المتوقعة، (وتصنف تونس ثاني بلد بعد سوريا تهاجر منه قواه العاملة). والرغبة في الهجرة في تونس - بحسب دراسة أمريكية - تشمل أيضاً من لديهم عمل مستقر. يمكن تأويل هذا الأمر سياسياً بأنه يعبر عن الإحساس العام الذي يحركه عدم الرضا والرغبة في البحث عن أطر حياتية أفضل، والإنخراط في نمط حياتي معولم، دونه الكثير من الحدود والعوائق أمام هذه الفئات، ما يدفع بها إلى الإحباط ويدفع بجزء من الفقراء الجدد إلى الاستعداد الدائم والمستمر لثورة جديدة.
"جانفي" على الأبواب
كانون الثاني/ يناير/ جانفي في تونس هو شهر الثورات. كل المواجهات بين الحكومات المتعاقبة والفئات المفقرة كانت في شهر جانفي. الخميس الأسود كان في جانفي 1978 والمواجهة كانت عنيفة بين الحكومة والإتحاد العام التونسي للشغل، ثم تلتها احتجاجات الخبز في جانفي 1984، لتصل بعد ثلاثين سنة، وإثر حكم قمعي، إلى سقوط بن علي في جانفي 2011. الحدث السياسي الأهم في كل هذا التاريخ الإحتجاجي هو 14 جانفي 2011 الذي فتح تونس وأجزاء أخرى من المنطقة على استعادة فكرة الديمقراطية علاوة على مفهوم العدالة. إلا أن تلك "اللحظة" قد وقع إستيعابها من قبل النظام، فأعادت وجوه النظام القديم إلى الواجهة، وعززت السياسة النيوليبرالية في المجال الإقتصادي.
يبدو سقف طموحات فقراء الطبقة المتوسطة عالياً نتيجة انفتاحها على ما تتيحه حركة العولمة من قيم وآمال، في حين أن واقعها يتسم بالبؤس والشعور بالاختناق. الفجوة بين الواقع والحلم تعمِّق الإحساس بالضيم واللامساواة وغياب العدالة، وهذه كلها محركات للغضب.
وتتوسع جغرافية الإحتجاجات ومبرراتها في كل مرة على نحو مختلف. لكن النقطة المشتركة بينها هي تعبيرها عن حركة مطلبية تتعلق بمستويين أساسيين يميزان الصراعات الإجتماعية الجديدة. المستوى الأول هو الاعتراف: الفئات المتضررة تحدوها الرغبة في أن يُعترَف بها ضمن النسق الإقتصادي والإجتماعي القائم. فقراء الطبقة المتوسطة لم يعودوا يسعون الى إسقاط النظام كما كان أملهم قبل تسع سنوات. ما يحركهم الآن هو أن يجدوا لهم مكاناً داخله، ألا يقع طردهم، تحت أي مبرر، من ''مجتمع الإستهلاك المعولم" .
أما المستوى الثاني فيتعلق ''بإعادة التوزيع" حيث الأمل لمفقَري الطبقة المتوسطة أن يكونوا مثل الآخرين، وأن يقع التعامل معهم بشكل عادل. لهذا يتشكل في تونس، كما في مناطق أخرى من العالم، "إقتصاد أخلاقي للإحتجاج" لا يقاوم الخيارات النيوليبرالية بشكل مباشر بل يعبر عن الاستياء من إلإقصاء من فوائدها، وأنهم باتوا متروكين، وهو إستياء تمظهر بشكل جلي في انتفاضات الأحياء الشعبية سنة 2017 على إثر قانون المالية المجحف، حيث تمت مداهمة المحلات التجارية، و خلع الموزعات البنكية. وهي احتجاجات كانت بلا هدف واضح. لكنها كانت أيضا تعبر بشكل عنيف على الرغبة في المشاركة بشكل فاعل في الحياة المدينية المعاصرة. وبهذا الصدد، حاولت الحكومات ما بعد الثورة إدارة توسع دائرة البؤس بطرق مختلفة، و خاصة ذاك المتعلق بالفئات الرثة، من خلال تقديم رعاية إجتماعية دنيا. ولكنها في الوقت نفسه تستمر في التعامل مع العاملين في الإقتصاد المديني غير النظامي بوصفهم مجرمين وتلاحقهم الشرطة كل يوم، مثلما حدث خلال في شهر تشرين الثاني / نوفمبر في حي "سيدي حسين السيجومي"، الحي الشعبي المتاخم للعاصمة، حيث قتلت الشرطة مهرباً صغيرا إثر مداهمتها لمحل لتخزين السلع المهربة، وهو ما أثار غضب المتساكنين وحرك فيهم الإحساس بالتهميش والضيم.
ثورة ولكن؟
الاستعداد لإشعال ثورة من جديد لا يعني ضرورة تغيير السياسات، بل يعني أن منسوب الغضب والخوف من المستقبل في تونس، قد بدأت دائرته تتوسع وتشمل بشكل خاص الطبقات المتوسطة التي تجاهد على نحو جلي، وبكل الطرق، من أجل تحسين وضعها وشروط وجودها. وهذا "الغضب" غير كاف لتغيير إيجابي ولكنه ضروري في الوقت ذاته. فلعل ما يعيق التغيير الإيجابي في تونس هو غياب المشاريع المجتمعية الواضحة. الإسلاميون المشاركون بالحكم لا يملكون أي مشروع إيجابي للتغيير. هواجسهم القديمة لا تزال تقيدهم على الرغم من إدعاءاتهم بالتخلص منها. أما اليسار فهو في يتقلب متردداً بين الحضور و.. الغياب.