تجار الشارع أو الهاربون من الدولة

يكاد الحديث عن السياسات الحضرية في تونس أن يكون غائباً عن النقاش العمومي ولم تعطَ بعد الأهمية لربط المدينة (بما هي فضاء) بالتجربة الديموقراطية في تونس، حيث لا تتيح العاصمة الشعور بالمواطنة للعديد من متساكنيها
2016-12-14

فؤاد غربالي

باحث في علم الاجتماع، من تونس


شارك
جمال طاطاح - الجزائر

بدأ محافظ تونس العاصمة المعيّن أخيراً حملة شرسة على تجار السلع المهربة المنتشرين في الشوارع والأزقة الخلفية للعاصمة، التي تعتبر المجال الحيوي لشبان وجدوا في تلك التجارة ملاذاً مربحاً، بل إن البعض منهم قد توارثها عن آبائه وخبر تفاصيلها الكبيرة والصغيرة. وينحدر جلّ هؤلاء الشبان من مناطق الداخل المنسية، حيث جاؤوا إلى العاصمة واحتلوا شوارعها الخلفية وبعضاً من أحيائها العتيقة على غرار حي "باب الجديد" التاريخي، حيث يتركز ''الجلامة" في سوق "سيدي بومنديل" المحاذي. والجلامة نسبة إلى مدينة ''جلمة" الواقعة في شمال محافظة "سيدي بوزيد" التي انطلق منها ما بات يسمى ''الربيع العربي". وقد صارت "جلمة" بمثابة الوصمة التي تُحيل لدى بعض من متساكني العاصمة إلى شبان ''أجلاف" و ''عنيفين" جاؤوا من هوامش البلاد لانتهاك المركز واحتلال شوارع العاصمة من خلال سلعهم الآتية من مختلف مسالك التهريب، وهي سلع يزداد عليها طلب الفقراء الحضريين والطبقات المتوسطة المهترئة. وتعتبر الدولة أن هؤلاء التجار يقعون ''خارج نطاقها"، لهذا فهي "تنزل على الأرض" لتقيم معهم علاقة متشعبة تبدأ من الحملات الأمنية للشرطة البلدية التي تحجز السلع في مستودعاتها وتجبر هؤلاء التجار على دفع غرامات مالية، وصولاً إلى غض الطرف عنهم لأشهر إلى الحد الذي يتمددون فيه على نحو يحوّل "قلب العاصمة" إلى سوق شعبي كبير. وتكشف هذه العلاقات عن كيفية إدارة الدولة لتبعات تفشي البطالة والفقر والإقصاء الاجتماعي ذي التمظهرات المتعددة في الفضاء العام، الذي تحاول الدولة إحكام السيطرة عليه وفق معايير أمنية تستند إلى خلفية اجتماعية وطبقية.

سياسة الزحف الهادئ للمعتاد

على الرغم من الحملات الأمنية الاستعراضية التي يقوم بها محافظو العاصمة عند بداية توليهم مناصبهم ضدّ ما يسمونه ''الانتصاب الفوضوي" والتي تؤدي عادة إلى "تراجع تكتيكي" لتجار الشارع الذين ينسحبون (على نحو يوهِم بأنه انسحاب نهائي) من أماكن ومساحات جغرافية يعتبرون أنها قد صارت ملكاً لهم، فإن عودتهم عادة ما تكون سريعة، وذلك ضمن ما يسميه عالم الاجتماع الأميركي، الإيراني الأصل، ''آصف بيات"، بسياسة الزحف الهادئ للمعتاد، وهي "سياسة تحتية" لا تعني فقط أن ''تجار الشارع" هم ''مقاوِمون" من أجل الاستمرار في العيش، بل بالعكس إنها عملية استحواذ حيث تبدو "عملية الزحف" في كل مرة على "شارع شارل ديغول" و ''نهج إسبانيا" و "نهج الملاحين" و "باب فرنسا" وبقية الشوارع المتفرعة عنها وهي صارت منذ منتصف التسعينيات ''معاقل تاريخية" لتجارة الشارع التي تغزو العاصمة. ويظهر هذا الزحف بمثابة ''فعل المثابرة" الهادئ والطويل المدى والذي يهدف إلى ''الاستيلاء" على الفضاء العام، بما هو فضاء مملوك للدولة المتحالفة مع الأقوياء والأغنياء، حيث يحاول الكثير منهم أن يوسّعوا من نطاق تحرّكهم ومن دائرة التفاوض اليومية مع الدولة. فالحملات الأمنية المتكررة تجعلهم يغيّرون أماكنهم إلى حين، كما يعملون على نسج شبكة علاقات مع متنفّذي الشرطة البلدية، ولا يترددون أحياناً في التعويل على التضامنات الجهوية لمواجهة كل من يهدّد "مكتسباتهم" المتعلقة بامتلاك الفضاء العام، وبوجودهم كمجموعات هامشية في العاصمة، على غرار ما حدث مثلا في شهر نيسان/ أبريل 2011 حين اندلعت مواجهة عنيفة بين تجار"سيدي بومنديل" المنحدرين من مدينة جلمة، ومتساكني حي باب جديد نتيجة مقتل أحد التجار على يد حارس حانة، بالإضافة إلى المواجهات المتكررة مع الشرطة حين تقوم بحملات عنيفة ضدهم.

ويدرك هؤلاء التجار أنهم باحتلالهم للحيز العام ينتزعون هوية وحضوراً اجتماعياً مرئياً. ويرفض جل تجار الشارع كل مقترحات مصالح بلدية تونس بتمكينهم من أماكن رسمية، لأنهم يدركون أن تحركهم خارج نطاق ما هو رسمي أكثر فاعلية من الناحية الاقتصادية، حيث يجيدون "فن أن لا يكونوا محكومين" (بعبارة جيمس سكوت). فمن الممكن أن يقلل تأطير الدولة من هامش الحركة ويضيّق هامش توسيع النطاق داخل حيز ''مركز المدينة" بما هو مسرح مكثف للنشاطات الاقتصادية ولوجود السلطة السياسية وللتظاهرات الاجتماعية والثقافية، ما يتيح هامشا للحركة وتوسيع دائرة الفرص التي تتمثل في "احتلال" كل الفراغات التي تبدو هامشية، من ذلك مثلاً مداخل المساحات التجارية الكبرى، متعدين بذلك على الفرص التجارية التي تُتاح لأصحاب تلك المراكز. في هذا الصدد تظهر الدينامية اليومية للنسيج الحضري للعاصمة، حيث يتجاور النظامي مع اللانظامي، وتُخلق تَواطُآت وتنافسية شرسة وعنف، وخطابات متعددة. ما يفسر أن ظاهرة تجارة الشارع هي مصدر لأشكال من الاجتماع الحضري، وبالتالي تصبح محاولات القضاء على هذا الاجتماع عبر الخيارات الأمنية مجرد استعراض يائس، ومواجهة فاشلة لهويات حضرية صارت جزءاً من ثنايا النسيج الحضري لشوارع العاصمة، ولمركزها الذي هجره سكانه الأصليون إلى الضواحي الشمالية للمدينة.

الضرورة تخلق الهامش

رغم الملاحقات اليومية للشرطة البلدية، والعيش اليومي تحت مخاطر حجز السلع المعروضة التي يعتبرها الخطاب الرسمي تهديداً للاقتصاد الوطني، وضرباً لمداخيل الدولة التي تعتمد على الضرائب لدعم مواردها.. يناضل تجار الشارع يوميا، ليس من منطلق سياسي قائم على استراتيجيا قصدية بقدر ما يتحرّكون بحكم الضرورة الاقتصادية التي تدفعهم إلى العمل على تدبير الذات قصد البقاء وتحسين ظروف الحياة. فتجارة الشارع تستوعب في تونس متخرّجي الجامعات الذين لم تمكّنهم شهاداتهم من الحصول على وظائف حكومية، بالإضافة إلى آلاف من الذين لفظتهم المدرسة العمومية بعدما تحولت إلى جهاز إقصائي وفقدت مشروعيتها كمصعد للترقي الاجتماعي. ويُضاف إلى هؤلاء متخرّجو السجون الذين لم يستطيعوا أن يجدوا لهم مكاناً في المنظومة الاقتصادية الرسمية بفعل السوابق العدلية، وكذلك الكثير من الطلبة الذين ينخرطون في هذه التجارة من أجل توفير مستلزمات الدراسة الجامعية، خاصة في ما يتعلق بإيجار شقق سكنية. وهي بالمقابل تعتمد على آلاف العائلات التونسية بعدما تآكلت قدراتها المادية ووجدت نفسها خارج النظام الاستهلاكي. فكلّ ضرورة تخلق هذه العالم الهارب من نطاق المنظومة الرسمية والمتعايش معها في آن واحد.

ضحايا النيوليبرالية

تكمن المفارقة بالنسبة لتجار الشارع في العاصمة وبقية المدن الكبرى في أنهم رغم انفتاح الفضاء العمومي بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 لم يتشكلوا في أي تنظيم نقابي أو جمعياتي، ويغيب عنهم الهوس بالتظاهرات الكلاسيكية للحركات الاجتماعية. إلا أن ذلك لا يعني أنهم لا يمتلكون فعلهم الخاص رغم هشاشة هويتهم الجمعية. فالانخراط في تجارة الشارع، والتهريب عموماً، تبدو بمثابة ''الرسالة السياسية'' الضمنية التي تحيل إلى أن خرق القانون الذي يمنع ''الانتصاب الفوضوي في غير الأماكن المخصصة لذلك" هو دعوة إلى مزيد من "الدولة الاجتماعية" التي لم يعد لها قدرة على إعطاء الأمل للفئات المحرومة التي لا تزال تمسك بتلابيبها. ويُغلَّف هذا "الخرق للقانون" من قبل التجار بمرجعية أخلاقية تركز على عبارات ''الكرامة" و ''الحق في العيش مثل الآخرين"، وعلى ''الشعور بالغيظ" و "الحقرة"، ما يجعلنا أمام ما يشبه "الاقتصاد الأخلاقي للامساواة الاجتماعية". وعلى الرغم من القمع الذي تواجه به الدولة هؤلاء في إطار سياسة ''إدارة الهوامش الحضرية"، فإنها كثيراً ما "تصمت" حيث تدرك جميع الحكومات المتعاقبة أنه لا يمكن مجابهة الاقتصاد الهامشي دون بدائل وحلول حقيقية للمسألة الاجتماعية.

فالتحول التاريخي الذي عرفته تونس منذ ثمانينيات القرن الماضي والذي تمثل في التحول من دولة الرعاية الاجتماعية إلى اقتصاد السوق وفق مبادئ الليبرالية، قد انزاح بالعديد من الفئات إلى القطاع غير الرسمي، وهي التي وجدت نفسها ضحية تحلل وتهاوي كل أشكال صيغ التعاقد الاجتماعي. وانعكس هذا الانزياح بشكل رئيسي في الفضاء الحضري، إذ تنحو تونس العاصمة التي يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين ساكن، جلهم من نازحي مدن الشمال الغربي الفقيرة وبقية المدن الداخلية، إلى الانخراط في كوكبة المدن النيوليبرالية، حيث يهيمن واقع حضري يحكمه السوق، وحيث نلحظ تزايد التفاوتات السوسيو - مجالية التي هي في الأصل نتيجة ''توزيع غير عادل للموارد". وتمتدّ العاصمة حضرياً في اتجاهين متضادين: الأول تمثله المباني وأحياء الأعمال التي تستقطب "النخب الجديدة للعولمة"، والثاني يتجه نحو التحضر اللانظامي في الأحياء الفقيرة حيث يتزايد يوماً بعد يوم تكدّس المهمّشين المحرومين من "الحق في المدينة"، والذي يعتريهم الشعور بأنهم محرومون من الحق في "المواطنة الحضرية" حيث يجدون أنفسهم أمام عوائق كثيرة تحول بينهم وبين الولوج إلى عالم العمل الرسمي ومجالات الاستهلاك الحضري. فالعاصمة لم تعد تتيح للجميع المشاركة في عالم المدينة مثلما كانت عليه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. في ظل هذا السياق، لم يبقَ لهؤلاء "التبع الحضريون" إلا أن يعولوا على أنفسهم، فما كان يوفر بالأمس التضامنات المؤسسية (العائلة، المدرسة، الدولة،..الخ) صار على عاتق الفرد نفسه الذي عليه أن يدبر أمره للخلاص. في هذا النطاق يتم الاعتماد على الموارد التي يتيحها الفضاء الحضري، وتمثل "تجارة الشارع" أحد الموارد الممكنة والتي تظهر ليس فقط كنطاق اقتصادي لا-شكلي، بل كآلية مقاومة وأداة احتجاج، ووسيلة تفاوض مع السياسات الرسمية التي تتجه أكثر فأكثر للتخلي عن ''الضعفاء".

نحو مواطَنة حضرية

يكاد الحديث عن السياسات الحضرية في تونس أن يكون غائباً عن النقاش العمومي ولم تعطَ بعد الأهمية لربط المدينة (بما هي فضاء) بالتجربة الديموقراطية في تونس، حيث لا تتيح العاصمة الشعور بالمواطنة للعديد من متساكنيها، بل الشعور القائم لدى البعض منهم أنهم "منبوذون" و "مقصيون". ونجد هذا الشعور لدى شبان الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة الذين يواجهون البطالة. ويتأكد هذا الأمر لدى تجار الشارع الذين يخوضون تجربة معاناة يومية في ظل قمع الدولة. بهذا المعنى يغدو من الضروري بلورة سياسة للمدينة، سياسة تتأسس على "مواطنة حضرية" تعطي للمتساكنين "حق الوجود" في المدينة بوصفهم مواطنين أساساً. وفي هذا الصدد، يغدو من المهم رسم ''مشروع حضري" للمدينة التونسية اليوم، وهذا يفترض ''الإصغاء إلى صوت الذوات الحضرية" وإدراك حاجاتها. فالديموقراطية لا يمكن أن تنجز خارج التفكير في مستقبل المدينة التونسية.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس: الثورة تنقسم على نفسها

كان 17 كانون الأول/ ديسمبر هو لحظة تكثيف معارضة التونسيين لتوصيات مؤسسات التمويل العالمية التي كانت تونس أحد "تلامذتها النجباء"، والتي أفرزت شروخاً اجتماعية، وجيوشاً من العاطلين عن العمل، ولا...

تونس: مثقفون هاربون من السياسة

لم تكن النخب الثقافية في تونس تتوقع أن يحدث تغيير جذري يطيح بالنظام، بل أن يُحْدِث النظام إصلاحات سياسية تتعلق بحرية التعبير والتعددية السياسية. تهاوي النظام كان الصفعة القاسية لغالبيتها،...