العراقيون يهوون المسرح ويستشهدون بحواراته ويحاججون بها في أحاديثهم العامة للإشارة إلى سوداوية الوضع أو عافيته. لهذا السبب تحديداً، يُعدّ الساسة المسرح مرتعاً لهم لطالما وظّفوه وتحكّموا به، لا لنشر الثقافة بل انتهازاً لمنافعهم. وبهذا بات المسرح العراقي اليوم دليلاً على انحطاط السلطة من ارتقائها. ولكن، متى كانت الثقافة عامةً، والمسرح خاصةً، بمعزل عن السياسة؟
لقصة المسرح في العراق ما يمكنه أن يروي سيرة مجتمع مثقف أثّر وتأثر بمحيطه قبل أن ينحدر إلى دمار قضى على أخضر الثقافة ويابسها. البداية تعود إلى عقد التسعينيات من القرن الفائت الذي أجهز على مساحة التقاء المسرح العراقي بالسياسة الوطنية، إذ كان يذهب ريع عروضه الأولى في عشرينيات القرن الماضي إلى الثوّار ضد الاحتلال البريطاني للعراق. كما أجهزت التسعينيات على الاشتغال المسرحي الذي كان يحكي بسخريّة مُرّة عن واقع الإنسان انطلاقاً من المحليّة العراقيّة، الأزقة و"الدرابين"، وصولاً إلى ما يعانيه العالم ومجتمعاته من التفكّك بعد الحرب العالميّة الثانية، مثل مسرحية "النخلة والجيران" و "الخان" و "البيك والسايق" التي عرضت في أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات، وظلت هي ملامح لا تتبدد لتلك الحقبة المسرحية.
أزمنة الانحطاط
ترافق مع هذا الانحدار تآكل دور السينما العريقة بعد أن شُملت بعقوبات الحصار فمُنعت من استيراد الأفلام الجديدة وعرضها على شاشاتها. وسرعان ما تحوّلت إلى مسارح رمّمت على عجل وسُلّمت إلى مقاولي الفن الجُدد من تجّار أثاث وسيّارات ومواد غذائية لا يبغون من الفن سوى التربّح. كما باتت مرتعاً لعروض حفلات ماجنة بعدما أغلق نظام البعث آنذاك الملاهي الليلية، فسُدّت الأبواب أمام الراقصات والمغنّين الشعبيين وسرعان ما نُسجت لهم أدوار ركيكة في قلب مسرحيات هزيلة أصلاً. كان زمن انحطاط بامتياز. ظلّت تلك المسرحيّات تنتقص طوال أكثر من عقد من أولئك القادمين من الأرياف وعملت على تسفيههم، كما جُلب "الأقزام" لاستخدام قصر قامتهم كـ "قفشة" لإضحاك الجمهور، فضلاً عن تقليد الذين يعانون صعوبة النطق أو المعوقين جسديّاً أو عقلياً، بطريقة تسخر من آلامهم وأوضاعهم بفجاجة. المحتوى كان الضحك فحسب، لا قصّة ولا أحداث مرسومة. مجموعة ممثلين يرتجلون حوارات بذيئة تُشجّع على التحرّش بالنساء، وتحرّض على المثليين، وتحطّ من الطبقة الوسطى باتهامها بالانفلات من قيم المجتمع الذي أخذ يتحوّل إلى العشائرية مذاك، علاوة على تقديم وصلتَيْ رقص وغناء خليعتين.
أكثر من سبعة مسارح كانت تقدّم هذه العروض كلّ ليلة، بما فيها مسرحا الرشيد والوطني، وهما الأكبر والأحدث من حيث التقنيات ليس في العراق فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط، حيث فتح نظام البعث أبواب هذين المسرحين لهذه الفرق، ودخل شريكاً أحياناً في إنتاج عروضها و "تقويم" محتواها. كانت صفقة سياسية بامتياز، من أجل تنفيس الغضب المتصاعد ضدّ السلطة بالضحك، وإرساء "ثقافة التفاهة" التي تحطّ من كل المعاني الكبرى، بدءاً من فكرة التعدديّة وصولاً إلى العلاقات الاجتماعية بين الآباء والأبناء. كان المجال يُفسِح لذاك الخطاب، بينما كانت تُطرَد العروض الجادة ذات الأسئلة المُلحّة والمُحتوى السياسي، وتفعّل مقصات الرقابة لرفض مسرحيّة تلو الأخرى.
وإذا ما كان الفقر يمنع عائلات وشبّاناً كثراً من دفع ثمن التّذاكر للدخول إلى هذه المسرحيّات، فإن عدي، نجل صدّام حسين، عبر محطّته التفلزيونية الأرضيّة "تلفزيون الشّباب"، كان يتكفّل بعرضها في وقت الذروة أثناء العُطل. لم يمكن إعفاء العراقيين إذاً من "حفلات التفاهة" تلك التي كانت تسفّه مواضيع الجوع والمنفى.. الأنظمة الديكتاتورية عادة تهتّم بسلطة الخطاب، ومثل نظام صدّام حسين كان هيّناً عليه الإمساك بكل أدوات إيصاله: قناتان تلفزيونيتان وأربع صحف كلّ ما يملكه العراق، وهي جميعها تروّج للخطابات المفرغة من أي محتوى احتجاجي أو أخلاقي.
وإنّ لم يبقَ للمسرحيين الذين يملكون خطاباً مناهضاً للسلطة سوى الفرار خارج البلاد، فإن أقرانهم الذين ظلّوا في عراق الديكتاتورية كانوا قد أوغلوا في التجريب والترميز في العروض المسرحيّة القليلة التي قُدموها من على صالة صغيرة فقيرة تحت مسمّى "منتدى المسرح"، الأمر الذي خلق هوّة كبيرة بينهم وبين الجمهور، وتسبب بالانقطاع بينهما.
كان نظام البعث قد استغفل العراقيين وتركهم يضحكون من آلامهم على مقاعد المسارح بهستيريا. أما الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان/ أبريل عام 2003 فوجّه صواريخه بدقّة بالغة إلى مقاعد مسرح الرشيد، ليترك بقع دم ضحايا مجهولين على قماشها المخملي، وليترك المسرح، الذي بُني عام 1981، ركاماً إلى الآن. كان هذا تاريخ جديد للمسرح العراقي.
صحيح أن ثيمة الحرب ظلّت مُسيطرة على مسرح الثمانينيات والتسعينيات في العراق، وفي غالبها بصيغة تعبوية، إلّا أن الصحيح أيضاً هو أن الثيمة ذاتها ظلّت تتكرّر في ما بعد احتلال بغداد. الحرب في شوارع ومُدن العراق جميعها، ولا يُمكن للفنِّ أن يكون منعزلاً عن الواقع، إلا أن ما يحدّد قيمتها وقيمها هو طريقة قراءة هذا الواقع. وما إذا كانت مُدينة للحرب والمحرّضين عليها والفاعلين فيها، أم مُغيّرة وقائعها بما يتناسب مع خطاب السلطة.
الصراع اليوم
برز اتجاهان خلال العقد الأخير في المسرح العراقي، كان الأوّل مخلصاً للسلطة من جديد، فهو أخذ يروي سيرة الحياة السياسية للمعارضة و "أبطالها" في حقبة حكم البعث، وأخذ يتماشى مع المشاركة بالمهرجانات التعبوية التي تُعالج مواضيع محدّدة تخصّ السلطة، بينما أوغل في إهمال الحياة اليوميّة لعراق الكولونيالية الجديدة المسبّبة أزمات المجتمع. هذه أعمال مُدرّة للربح. فالميليشيات والأحزاب تأتي بفرق وتموّلها من أجل عرض مسرحيات كهذه، قبل أو أثناء مؤتمراتها أو "حفلات(ها) الوطنية".
إلا أنّه بالمقابل، برز تيّار من المسرحيين، غالبيتهم من الشباب، نبشوا الأحزان العراقيّة بطرقٍ درامية وكوميدية، وخلقوا ما يُشبه تقليداً جديداً يتخلّى عن اللغة الفصحى ويكتفي باللهجة المحليّة من أجل وصولٍ أيسر إلى عامّة النّاس. في هذه الأثناء، كانت أحزاب الإسلام السياسي قد تنّبهت إلى هذه الفورة، فقامت بالسيطرة على "دائرة السينما والمسرح" التابعة لوزارة الثقافة العراقيّة عبر تعيين مُدراء ينتمون إليها أو مقرّبين منها. والدائرة هذه هي المنتِج الوحيد للعروض المسرحيّة الرصينة في العراق. بالطبع وُضعت آليات لتقنين إنتاج مسرحيّات الشباب، ومنها جعل دخول المسارح مجّانية، وهو ما لا يدرُّ أموالاً على الفرق المسرحيّة فيجعلها مكبّلة بميزانية وزارة الثقافة، فضلاً عن تخفيض أجور الممثلين وتخفيض كلف الإنتاج وحذف تفصيلات كثيرة من ديكورات العروض ومفردات السينوغرافيا، إضافة إلى ممارسة دور الرقيب من جديد على بعض النصوص والامتناع عن إنتاجها. وهذه الدائرة تمنح تمويلاً للشباب عن كل عرض لا يتجاوز 3 آلاف دولار، وهي تحتكر ترخيص مشاركة العروض في المهرجانات العربيّة والدوليّة، لكونها منتِجة. وعلى هذا الأساس، ثمّة الكثير من العروض ذات النبرة الانتقادية أو الساخرة من السلطة وأحزابها، مُنعت من التجوّل بمسرحياتها خارج العراق.
والحال هذه، لم يكن مستغرباً أن تعود دورة هجرة وفرار جديدين للمسرحيين العراقيين في العامين الأخيرين، أوّلاً بعد إقالة مدير عام عيّن لأشهر وحاول إعادة جزء من تقاليد المسرح، وثانياً بعد تقليص إنتاج الأعمال المسرحيّة من قبل وزارة الثقافة. وفي ظل اقتصاد متدنٍّ يديره طفيليون، لا يُمكن أن تُشارك الشركات التجارية الخاصّة في الإنتاج، الأمر الذي يجعل المسرحيين محبَطين وعاطلين عن العمل (أليست خطوة سياسية أخرى لكن بصيغة "الديمقراطية" الملتبسة؟)، إلّا أن المستغرَب هو أن يُكلّف لإدارة دائرة السينما والمسرح شخص من حزب إسلامي لا يخفي موقفه المناهض للفنون، ومعاونه الذي كان منتجاً لأغلب أغاني الإسفاف خلال العقد الأخير. وبطبيعة الحال، خلطة الإيديولوجيات هذه أعادت خشبات المسارح إلى المسار التسعيني.. هكذا عادت "حفلات التفاهة" من جديد وأُلغيت جميع محاولات التحديث المنفلتة من خطاب السلطة. وهذه المرّة أيضاً تتكفّل الفضائية التي تموّلها الحكومة العراقيّة بعرض المسرحيات على شاشاتها!