تجنّس الخوف وصار عراقيّاً بامتياز. يسرد أولاد أختي صباحاً وقت الفطور كوابيس مرعبة لاحقتهم أثناء نومهم ليلاً، مبررين بذلك إفاقاتهم المتواصلة وصراخهم الذي يحيلنا إلى عدّائين ماهرين للوصول إلى أسرّتهم لطمأنتهم بأنهم هنا بين أيدينا وعلى ما يُرام. هؤلاء أربعة، ولكلِّ واحدٍ منهم كابوسه الذي ينمو معه، أو يتفاقم أو يخفّ بحسب ما يَخْبر في الحياة. عائلة صغيرة بكوابيس ليلية ومخاوف نهارية، فلا فرق بين النور والظلام. قدم الزمن استقالته، وترك الوقت مرتعاً للقلق.
والخوف، والكوابيس التي تنتج عنه، ليس محصوراً بالأطفال. نحن نعيشه أيضاً، والنساء في هذا المفصل أكثر جرأة من الرجال، إذ لا يحتفظن بكوابيسهن لأنفسهنّ مثلما يفعلون. لهن طرق في معالجة أنفسهن من آثار الكوابيس عبر سردها وتحليلها خلال دوائر المائدة أو احتساء الشاي، إلا أن مخاوفهن التي تشبه الكثير من مخاوفنا نحن الرجال، أو هي ناتجة عنها، تظلّ حبيسة دواخلهن. وهذا خوف متراكم في صدور العراقيين، يخرج القليل منه في بعض الجلسات، ويظلّ المتبقّي مُطْبقاً على أيّامنا.
الخوف بذلك ليس نتاج يوم أو عقد أو حالة.. إنه حصاد أعوام توالت، ومنه العام الأخير المنقضي الذي بدت قدماه مليئة بالوحل، حيث الهرب العراقي الجماعي بصور تعجز المخيّلة عن مجاراتها جرّاء غول "داعش" الذي احتلّ المُدن. وثمَّة اليأس الذي دفع الشبّان إلى بحر "إيجه" التركي ـ اليوناني، وأغرقهم هناك دون أن يحظوا برقدة أخيرة في ترابهم الذي تملأه المقابر. ولا ينتهي ذلك بالعطالة التي خيمت على المنازل بعد أزمة اقتصادية عصفت بين حرب وتصفير لخزينة الدولة التي عاث بها الفساد، لتفقد أكثر من 600 مليار دولار: لا أحد يعرف أين ذهبت أو كيف (يقول تقرير أميركي إن أموال عراقيين مودعة في الخارج تكفي حاجات 4 موازنات للبلاد).
وعند وسط العام، كان هناك أغوالٌ جديدة تكبر. جماعات تمسك بالسلاح و "تُطمئن" الجميع بأن دولتهم لن تضيع، لكن عليهم مجاراة أفكارها.. الغارقة في الرجعيّة. هذا خوف مستمرُّ، يبعث على الهرب والانزواء واليأس والشعور بالعدم، وإن كان يدعو في بعض أطواره إلى احتجاج، كان قد تجسّد في صيف العام الماضي على شكل تظاهرات كبيرة، سرعان ما تشتّتت وأُفرغت من محتواها.
ومع نهاية العام، ردّد العراقيون أن "رأس سنتهم" أقرع. احتفلوا هذه المرّة مدفوعين إلى الشوارع، إلا أن الجميع كان يتحدّث عن خوف من سنتهم التي تحمل المخاوف كلّها دفعة واحدة: خطف، انفجارات، فقدان عمل، خفض راتب، رفع مبلغ الإيجار، تهجير، حرب جديدة... ليس هذا جديداً.
يُراد للخوف أن يظلّ في العراق: لطالما خفنا هنا! ثمّة ما يشبه الأبدية في هذا. صار الخوف يتحكم بالمفردات وأنتج قاموسه الخاص. لا يمكن أن تذكر اسم "القائد الضرورة" دون أن تلحقه بجملة "حفظه الله ورعاه"، إذ شيّدت دولة البعث نظامها على الخوف وأفردت له مؤسسات متعددة، لم تكتف بدوائر الأمن والمخابرات، بل أوكلت المهمة الأكبر في إشاعة الخوف للفرق الحزبية المنتشرة بين الأحياء.
وإن اتكأ النظام السابق على مقولات الحقبة الستالينية في تسويق القائد الحديدي، فالنظام الحالي، وعلى مدى حكوماته المتعاقبة، اتكأ على مقولة "أطيعوا أولي الأمر منكم" بتعدد تأويلاتها، وذلك حرصاً على تنظيم علاقة السلطة بالمجتمع كي يبقى هذا الأخير بعيداً عن جنوحه إلى مراقبتها أو محاسبتها. إنه خوف من نوع آخر، لكنه في نهاية الأمر استمرار للخوف الأول معززاً بقتل مجاني على يد ميليشيات السلطة العابرة للقوانين والمحاكمات.
هكذا ما عاد الخوف من السلطة فحسب، هو ما يعيشه العراقيون اليوم، بل بات الخوف ذاته سلطة تصوغ أنماط المجتمع العراقي وهوية المواطَنة فيه. والحال هذه، يصبح السؤال كيف يتعايش العراقي مع خوفه، إذ لم نعُد نعرف جميعنا على حد سواء هيئة العيش من دونه. كيف يدجّن الخوف المواطن وكيف يدجنه المواطن ليتمكن من العيش معه: كم مرة يشعر العراقي بالخوف في مستهلّ يومه، كم مرّة يَرتجّ جسده ويذهب في خيالاته بعيداً. كم حدث يكرج في رأسه بالدقيقة الواحدة. ما هي المخاوف التي يلتحفها وينام ليلاً، وتأخذ المساحة الكبرى من السرير وتحشره في مساحة ضيّقة خانقة؟ وإلى مَن يتحدّث هذا الكائن المبتلى بالحروب والموت عن خوفه، وكلّ من حوله يحمل سرّ الخوف المتوثِّب؟
اجتماعياً، ما فتئت أمهات العراقيين وجدّاتهم تلقنَّ القول "ضحكةُ خيرٍ" بعد كلّ جلسة سمر، خشية أن يلحقها شرّ. هذا خوف. وعلّمتهم الحذر المستمرّ من الحسد خشية أن يحصل مكروه، وهذا خوف أيضاً. وجرى تلقينهم وتعليمهم، على الصعيد العام وبشكل مستمر عن عدم الحديث عن السلطة والأحزاب، وآزر الآباء والأجداد ــ خوفاً ــ الفكرة الأخيرة، ودعّموها بالتجارب والسرد المشبَع بتشنّج ملامح الوجوه وحركات الأيدي.. هكذا صار الخوف رئيساً يقبض على الشباب الذين سيعيدون دورة الحياة ذاتها بالكثير من اليأس من تغيّر الحال، والقليل من المجازفة والإقدام. خلّف الأجداد خوفاً منقوعاً بسياط الإقطاعي ونظرات "السري" (وهي التسمية التي كان العراقيون يطلقونها على عيون السلطة وأفواج السخرة)، وخلّف الآباء خوفاً يتسم بالاعتقالات العشوائية والقسرية والموت مدفوع الثمن، حيث كان النظام يتقاضى ثمن الرصاصة التي يقضي بها على المواطن من ذويه، وخلّفوا الخوف من الجوع ونقص الأدوية الذي أنتجه النظام من شماعة الحصار الدولي، إضافة الى الخوف من الجدران التي يعتقد العراقيون أن "لها آذاناً"، ليرث الأحفاد خوفاً ممنهجاً، لم يجد النظام الذي شكله الاحتلال الأميركي صعوبة في استثماره وتغويله، ليصبح الناظم الأكبر للعلاقة بين السلطة والفرد، وبين الفرد والمجتمع الذي تعددت فيه مراكز النفوذ وقرارات الموت بين العشيرة والميليشيات وعصابات السلب والنهب المنظم.
صار الخوف واحداً من الأرصدة الجارية التي لا تنتهي مهما صُرف وبُذِّر منها وفيها. يستعمله الجميع في الأيّام العراقيّة المأزومة، في أغلب اللحظات حتّى السعيدة منها، من أجل إحلال إنقاذ غير متحقّق في ظل عواصف أمنيّة واقتصاديّة وسياسيّة تضرب كل شيء بلا هوادة، ويبدو أنّها ماضية في الجنون أكثر، ويجعل هذا الخوف أكثر اطمئناناً على مستقبله في هذي البلاد. يبدو أكثر اتكالاً على صانعيه وهم يزيدونه تغوّلاً، دون أيِّ حسابٍ لتلك الأرواح التي صارت تفقد معنى حياتها حتّى في أقصى لحظات احتجاجها وانفعالها ضد الواقع الذي بلغته.