يُطبق الماضي الأليم على العراقيين، بينما بات المستقبل بالنسبة لهم مجهولاً. وحده الحاضر، اليوم، الضاغط على صدورهم بعد أن تُرك للساسة وأحزابهم التي وضعت كرامتهم وأمنهم وصحّتهم وتعليمهم على طاولة القمار وأخذت ترمي الورقة تلو الأخرى وتخسرها، بينما هم ينزوون يائسين وطيّعين للموت.
ضاعت واردات البلاد طوال أكثر من عقد على صفقات فساد ونهب، والآن لم تَعدْ أموال النفط العراقي مجديّة بعد أن هبط سعر البرميل إلى نحو 30 دولاراً في الأسواق العالميّة، ويبيعه العراق ناقصاً هذا السِّعر بنحو 8 دولارات، إضافة إلى أن الشركات النفطيّة العاملة في البلاد تقبض تكلفة استخراج البرميل الواحد نحو 12 دولاراً، هذا يعني أن العراق، الذي يعتمد اقتصاده بنحو 97 في المئة على إيرادات النفط، مهدّد بشكل حقيقي بالإفلاس، لا سيما أن الحكومة سحبت من الاحتياطي النقدي نحو 15 مليار دولار، وهي تسعى إلى سحب 10 مليارات أخرى العام الجاري، ليتبقّى منه 40 مليار دولار فحسب.
ديون مهولة
هذا الوضع الاقتصادي مكبّل بحجم ديون كبير، داخلية وخارجية، إذ يقدّر صندوق النقد الدولي أن حجم دين العراق تضاعف خلال عام واحد في 2015، وتوقّع أيضاً أن ترتفع الديون في العام الحالي.. وبلغت ديون العراق 122.1 مليار دولار في 2015 في وقت كانت فيه عام 2014 تقدّر بنحو 87 ملياراً. إزاء هذا الواقع، يعرف الجميع في بلاد ما بين النهرين اليوم أنه يعيش في بداية أزمة اقتصادية خانقة، أخذت بالفعل ترمي بظلالها على المجتمع. يسهل سماع الشكاوى في كلّ مكان، الشارع والباص والمقهى، وصار فقدان العمل مألوفاً، وكساد البضائع في الأسواق ملموساً، وترافق ذلك مع انتشار عصابات القتل والسرقة والسلب. وبينما يقفُ العراقي عاجزاً أمام ما يحدث، تمعن الأحزاب العراقية والحكومة الناتجة منها في الحديث عن أهوال الأزمة الاقتصادية، ويحث أعضاؤها الناسَ المساكين على "شد الأحزمة"، ويحذرّون من الهبوط إلى الدرك الأسفل من الجوع والفاقة، بينما لم يكن الوضع قبل هذه الأيام آمناً لهذه الجهة أصلاً. وقد أخذت تلك التحذيرات تترجم على الأرض على شكل قرارات، بعضها سرعان ما نُفِّذ من دون أن تسبقه أيّة مقدّمات، وأخرى يتواتر الحديث عنها ليل نهار وهي في طريقها إلى التطبيق.
بدأت الحكومة، والحال هذه، تلعب بأوراق البلاد الأخيرة التي ستؤدي إلى الهلاك في نهاية الأمر. والأوراق تعني في لغة العراق صفقات فساد أخرى لتسمين الأرصدة وتكثير العقارات في خارج البلاد لمصلحة المتنفذين (قدر مركز أبحاث أميركي حجم الأموال المهربة من هؤلاء والمودعة خارج البلاد بما يوازي 4 ميزانيات سنوية، وقد كانت ميزانية العراق 150 مليار دولار في 2014)، فضلاً عن إرضاء المؤسسات المانحة للديون، لجلب مزيد من المال ليعاد تدوير سرقتها وتبديدها.
استغلال التعليم
ومما تفتق عنه خيال الحكومة كواردات لها بإزاء العجز المالي هو الاستثمار بالشباب والعلم. جميل، ولكن كيف؟ يسعى الشبّاب إلى إكمال دراستهم من أجل تحصيل وظيفة حكومية لائقة، بيد أن فشلهم بتعدّي امتحانات البكالوريا يحول بينهم وبين الوظيفة المشتهاة. فهم يتلقّون تعليماً متردياً يجعلهم حيارى أمام أوراق الامتحان، ومدارسهم تستقبلهم على شكل ثلاث وجبات في اليوم، صباحاً وظهراً وعصراً بسبب نقص أبنية المدارس، وهذا الخلل يضعف من تركيزهم في الدراسة، علاوة على الأزمات المعيشية لعوائلهم وتلك التي في الشارع، أي ضعف الأمن، وانتشار الميليشيات، وصعود الأعراف العشائرية. إلا أن السعي للحصول على شهادات جامعية للوصول إلى وظيفة حكوميّة يقوي إصرارهم. وهذا الإصرار، هو تحديداً، ما تلتمس الحكومة استثماره كمربح لخزينتها، جاعلة من العلم ملعباً إضافياً للفساد وبالتالي للربح على حساب المجتمع وأهم ركائزه: التحصيل العلمي.
يُسمح هنا بإجراء دورتين للراسبين في امتحانات الدور الأساسي. لكن، ووفق الصفقات الزبائنية مع أهالي الطلاب، صار يُسمح بدورة ثالثة لمساعدة الطلبة على النجاح. وفي العام الماضي، كانت الدورة الثالثة حاضرة، إلا أنّها هذه المرّة بـ "فلوس"، حيث قرّرت وزارة التربيّة السماح للطلبة بأداء كل امتحان مقابل دفع مبلغ 25 ألف دينار (نحو 18 دولار). ولم تبيّن الوزارة حجم الواردات التي تُحَصِّلها مقابل بيع "الامتحانات" لهؤلاء الطلبة، وانتقالهم إلى المعاهد والجامعات وهم يعانون خللاً حقيقياً في هضم التعليم.
هكذ تحول العراق، الذي كان من أوائل البلدان العربية التي اعتمدت مجانيّة التعليم، والذي تمكن من محوّ الأميّة بشكل كامل في الثمانينيات، إلى بلد مسلِّعٍ للعلم ومبذّر لقدرات أجياله الشابة. وهذا غيض من فيض، فقد نهبت طوال الأعوام الماضية أموال بناء المدارس وترميم الجامعات وتحسين المناهج وطباعتها بشكل لائق..
..والصحة
ليس مجال التعليم وحده المستثمَر بالفساد! فقد جرى تطبيق تشريعات مدّرة لخزينة الدولة في قطاع الصحّة، دونما أيّة مقدمات، إذ تفاجأ العراقيون الذين راجعوا المستشفيات والمستوصفات الحكوميّة مطلع شهر شباط / فبراير الجاري برفع رسوم الخدمات الطبيّة. وبدا الناطق باسم وزارة الصحّة مزهوّاً بالحديث عن تحصيل وزارته نحو 80 مليار دينار (نحو 80 مليون دولار) سنويّاً من المراجعين، بعد أن احتسب أن المؤسسات الطبيّة تستقبل نحو 80 مليون مراجع سنويّاً.. بهذا أُسدل الستار على نظام مجانيّة الرعاية الصحيّة بعد أن كان قد أُقرّ عام 1970، وصارت تكلفة علاج أمراض العراقيين مرتبطة بصعود أسعار النفط وهبوطها.
أولئك المتحمسون لتطبيق النيوليبرالية التي سعى الاحتلال الأميركي جاهداً إليها (اتخذ خطوّات عدّة لإرسائها فور سقوط بغداد في نيسان / ابريل عام 2003، مثل إثقال القطاع الزراعي بعقود تمتد إلى ربع قرن مع شركات أسمدة أميركية وتدمير المصانع وجعلها عالة على الدولة)، سارعوا إلى مديح استحصال الأموال مقابل الخدمات التي تقدّمها "الدولة". "كفى دعماً ومجانية" يصرخ هؤلاء، إلا أنّهم لا يضعون على طاولاتهم خرائط المحرومين في هذه البلاد، وكيف يحصلون على المال لدفعه إلى المؤسسات الحكومية في بلد تسيطر الأحزاب على كلّ منافذه، بدءاً من موارد البلاد التي تسرق الجزء الكبير منها وتمنح الفتات لفئات من المجتمع لتحافظ على بقائها في السلطة، وليس انتهاء بصناعة فئة تجّار جدد جشعين ونهّابين يهرّبون الأموال والأرباح المستحصلة من عقود الدولة إلى الخارج.
وحتى الأمن!!
علاوة على كل هذا، فكّرت الحكومة بقضيّة أخرى ممكن أن تُجبر العراقيين على دفع الأموال: الأمن! إذ شرعت وزارة الداخلية بوضع ملصقات على السيارات التي تحمل لوحة بغداد تتضمن بياناتها وبيانات حائزها، وبهذا فستسيطر على السيارات المفخخة التي تضرب العاصمة ليل نهار. الأمن مهمّ في بلد مشرّع على الموت، وكل عراقي يسكن بغداد مجبر على دفع 15 ألف دينار (نحو 12 دولاراً) مقابل ملصق البيانات، رغم أن الحكومة تنفق ربع الميزانيات السنوية "الانفجارية" على قطاع الأمن. لكن هذا لا يهم، الصفقة رابحة لا سيما أن أحد الخبراء قدّر عدد المركبات في بغداد بنحو 3 ملايين مركبة. بالمقابل، ليس لدى المؤسسات الأمنية تفسير أو حل للسيارات الحكوميّة التي تقوم بأعمال الخطف والسرقة والقتل والتهجير، وهي في غالبها تنتمي إلى جهات سياسية.
السّلطة تبيع الأرض
وإذا كانت أرواح العراقيين وأعمارهم بهذا الرخص، فلا يبدو غريباً أن تكون بلادهم وأملاكهم أرخص، إذ أخذت الحكومة بإحصاء الأبنية والأراضي الصالحة للبيع من أجل عرضها في المزادات. وبالمقابل، جهّزت الأحزاب تجّارها لدفع مبالغها. قدرت لجنة الاقتصاد في البرلمان أملاك الدولة التي ستعرضها الحكومة للبيع بنحو 150 مليار دولار، إلا أنها حذّرت من وجود صفقة بين أحزاب وتجّار على "قبض" نصف هذا المبلغ مقابلها. وكان رئيس مجلس الوزراء، قد انتبه إلى هذا الأمر فسارع إلى الإعلان ليل 9 شباط / فبراير إلى أن الحكومة ستوزّع أراضي على المواطنين (ليشرح للناس: "كلنا في الهوا سوا"). لكنه أغفل أن هذه الأراضي ستوزّع "مقابل أموال"، ما يعني أيضاً أن تجّاراً صغاراً سيسارعون إلى شرائها واحتكارها، وأن الفقراء المعدمين سيظلون بلا مأوى لعدم قدرتهم المالية، في بلد شحّ فيه السكن وصارت المناطق العشوائية التي تُبنى بالطين تنافس مساحاتها المُدن الأساسية في العاصمة.
بناءً عليه، لا تصمد كل هذه السياسات "النهّابة" في "الآنية الحرجة" التي تحاول الأحزاب تسويقها.. وهي تعزز علاقات "الاستزلام" وتمتد إلى عقود قادمة.. إلى مستقبل ليس للفقير فيه (الذي تعوزه الصحة والأمن والتعليم والسكن) سوى اللجوء إلى بضعة حلّول: الثورة أو الانتحار، أو الانضمام إلى عصابات الجريمة التي أخذت تنتشر بشكل فظيع.