في مطالع تسعينيات القرن الماضي، كانت مدرسّة اللغة العربيّة تجبر طلاّبها على قراءة اليافطات في الشوارع لحثّهم على التهجئة والقراءة بشكل أسرع والاستزادة في ثروة لغوية لا تقتصر على منهاجهم المدرسي. ملل وتبرّم الكبار من أطفالهم كان بادياً في المواصلات العامّة، والأطفال لا ينفكون عن تهجّي اللافتة تلو الأخرى، سائلين أهلهم عمّا تعنيه هذه الكلمة.. مستفسرين منهم إن كانوا لفظوها بشكل صحيح أم لا.
كانت أيام حصار، ومع ذلك لم يتوانَ الكثير من المدرسّين والمدرسّات في البحث عن وسائل تعمّر سوق اللغة العربية في وجه كساد طال الأسواق جميعها.. و"عزّ أقوام بعز لغات" بوصف حافظ ابراهيم، والعراق منذ سحق زمانه موطن الشعراء واللغة.
أما عن ذلك العزّ فحدث في عراق اليوم. إذ لن يراكم الطالب سوى أخطاء إملائية من تقفيه أثر العربية في اللافتات المتوزّعة في شوارع بغداد، سواء التابعة للمؤسسات الحكومية أو للشركات والمحال الخاصة، والأخطاء الإملائية تتنوع ما بين إضافة الهمزات فوق وتحت كلّ ألف، وإسقاط حرف أو حركة على الكلمة أو فيها. تتناسل هذه الأخطاء في الشوارع بالرغم من احتفال العراق، سنويّاً، باليوم العالمي للغة العربيّة (الذي يصادف في 18 كانون الأول / ديسمبر من كل عام، والذي كرّسته اليونسكو عام 2012 يوماً للاحتفال بهذه اللغة). وأسست الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي "اللجنة الدائمة للحفاظ على سلامة اللغة العربية"، وهي تقوم بمهام الحفاظ على اللغة العربيّة في المراسلات الرسميّة، فضلاً عن مراقبتها لخطابات الدوائر الحكوميّة وتوجيهها في تلافي الأخطاء الواردة في كتبها، علاوة على فرضها على المؤسسات الحكوميّة توظيف مدققين لغويين من أجل القيام بتلك المهام.
موت العربية لا يقتصر على الجهات الحكومية وتقاعسها، بل يبدو جلياً في لغة التعبير للمجتمع العراقي بكافة أطيافه، كما عرّته خلال الأعوام الماضية مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر.. وما شاكلها). بدا واضحاً حجم التعليم المتدنّي من خلال التعليقات والأفكار المطروحة، إذ قلّما يجد المرء تعليقاً لا يخلو من عيب إملائي أو نحويّ على هذه المواقع. ولا تقتصر هذه الأخطاء على فئة دون غيرها، وليس المتعلمون بمعزل عنها: من طلاّب المراحل المتوسّطة والإعدادية وصولاً إلى أولئك الحاصلين على شهادات عليا في الماجستير والدكتوراه.
استسهال الطالب العراقي للغته وصلاح كتابتها يظهر أيضاً في ما يسرّب من أوراق امتحانات الإنشاء في نهاية السنة الدراسية، ينشرها أساتذة لغة عربية على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي باتت ــ بمفارقة محزنة ــ مصدر هزل اجتماعي متدَاول. تدخل العاميّة والأمثال السوقيّة إلى المادّة الإنشائية، ويكتب الطالب ما يُمليه عليه عقله دون أيّ مداراة لصرامة امتحان اللغة ومفرداتها وقواعدها.. فامتحان الإنشاء، بكلّ الأحوال، ليس ذا درجات كبيرة وبالإمكان تعويضه في مفاصل أخرى من امتحان العربيّة.
والأنكى من ذلك، أن العربيّة في العراق لا تنحسر كما يحصل في بلدان أخرى لصالح لغة أجنبيّة أخرى، وإنما هي تتراجع لتفسح المجال واسعاً أمام أميّة وانحطاط يتفاقمان في المجتمع. إنها تنحسر لصالح اللهجات المحليّة التي أخذت مفردات العنف والابتذال تتسلّل إليها حتى في حوارات الحب بفعل ما عاناه ويعانيه سكّان هذه البلاد من عنف متواتر، وصعود خطاب السلطات الرجعية، بسبب الفشل في إرساء نُظم "الدولة"، وبسبّب تدّني الخطاب السياسي والديني في آن واحد، ورجوعه إلى لغة مُبسطّة يتخللها الكثير من السوقيّة في التعبير.
وفي الواقع، لا يعني كلّ هذا بكاء على أطلال اللغة، ففقدانها لدى مجتمعٍ لا يعني ترفاً، وإنما يعني، من بين ما يعنيه، انسحاب الانحطاط إلى مجالات عدّة، والاحتجاج السياسي ليس بعيداً عنها. فاللغة تمثّل لبّ الاحتجاج. إنها أكثر أدوات التعبير التي تُرعب السلطة، خاصّة في عصر التكنولوجيا، والتي صارت إحدى أكثر الأدوات التي تُساعد على تكوين مجال عام افتراضي، بعد أن سيطرت السلطات بكافة أشكالها، على المجال العام المادي. و "لكي تصيبوا الـهدف وتصيب الكلمات مرماها وتكون مربحة وتنتج مفاعليها"، يقول بيير بورديو في محاضرة عن "السوق اللغوية"، فإنه "لا يجب التفوه بالكلمات الصحيحة نحوياً فحسب، بل والكلمات المقبولة اجتماعياً أيضاً".
لكن "اللغة" التي يضعها الباحث السوسيولوجي في "سوق"، مستعيراً نظريّة اقتصادية، تنطبق أيضاً على شكل هذا السوق وأرباحه وعدالته في بيع السلع وشرائها. والحال، لا يحتاج المرء الكثير من التفحّص لمعرفة تدّني حال "سوق اللغة" في العراق، إن كانت شفاهية أو مكتوبة. لا يكاد موقع الكتروني لمؤسسة حكوميّة أو بيان صادر عنها يخلو من الأخطاء أو من الصياغات الخاطئة، كما أنّه أيضاً لا يشذ، في حال اتخذ موقفاً دفاعياً عن التورّط في قضيّة فساد، عن لغة التشهير أو التهديد المتداوَلة. أمّا على الصعيد الشفاهي، فيكفي النظر إلى عام 2015، حيث واجه نحو خمسة مسؤولين منتقديهم بالتهديد بوضعهم "تحت الأحذية"، وهو الأمر الذي مرّ مرور الكرام دون أن يجدّ كثيرا من الاعتراض على انحدار لغة الخطاب إلى هذا المستوى.
في المحصلة، الخطاب السياسي الذي يدير دفّة البلاد لا ينفصل عن وضع التعليم. الأخير نتاج الأوّل، وما دام الأمر هكذا، لا يبدو أن بَوار "الخطاب" الخالي من الأخطاء والرصين في "سوق اللغة" العراقيّة مستغرباً. إلا أن المُحزن هو بناء "صرح الانحطاط" هذا على أنقاض مدرستين نحويتين هما الكوفة والبصرة.
مواضيع
العراق: انحطاط سوق اللغة
مقالات من العراق
فتاة كقصبة ال"بامبو"
"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...
العراق: ما تداعيات انخفاض أسعار النفط على الموازنة ورواتب الموظفين؟
يعتمد العراق بنسبة كبيرة على بيع النفط الخام في تأمين إيراداته السنوية ودفع الرواتب وبقية المستحقات الأخرى، فيما يواجه قطاع الزراعة الذي كان يمثل أحد .روافد الإيرادات في السابق، تدهورا...
القضاء المدني وصراع البقاء في العراق
المعارك القانونية حول تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق، كانت ولا تزال مستمرة منذ سنوات. لكن الأمر هذه المرة وصل الى حد أن أصدرت "نقابة المحامين العراقيين" بياناً، أعلنت فيه...
للكاتب نفسه
تظاهرات تشرين العراقية: ثابت السياسة وتحوُّل المجتمع
ما إنْ اندلعت التظاهرات، حتى جمعت آلاف الشبّان في ساحة التحرير وسط بغداد، وحملت هموماً وقضايا لا تُعد. خرج إليها اليائس والباحث عن عمل، خرج إليها الغاضب على العائلة والعشيرة،...
العشوائيات في بغداد: أوطان في كل مكان
ليس للعشوائيات في بغداد شكل محدد. فمنها ما بُني على أراضٍ بلا سند ملكية لشاغليها -حيث تعود ملكية 98 في المئة من هذه الأراضي للدولة و2 في المئة لملاّك من...
العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"
تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...