شهر محرّم مختلف في العراق هذا العام

... فثلث البلاد تحت سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، والتقشّف على الأبواب بسبب هبوط أسعار النفط والعجز في الموازنة، وهناك نحو مليوني مهجّر أكثر من نصفهم يعاني من البرد في المخيمات، وحالة التجاذب السياسي ما زالت تسيطر على البلاد. وقبيل الدخول إلى شهر محرّم، طالب ناشطون أصحاب المواكب الحسينية الذين يطبخون في الشوارع كلّ عام، بمنح المبالغ التي سينفقونها على الطعام الذي سيوزع على
2014-12-24

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
| en
إحياء الشعائر الحسينية في العراق (من الانترنت)

... فثلث البلاد تحت سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية"، والتقشّف على الأبواب بسبب هبوط أسعار النفط والعجز في الموازنة، وهناك نحو مليوني مهجّر أكثر من نصفهم يعاني من البرد في المخيمات، وحالة التجاذب السياسي ما زالت تسيطر على البلاد.
وقبيل الدخول إلى شهر محرّم، طالب ناشطون أصحاب المواكب الحسينية الذين يطبخون في الشوارع كلّ عام، بمنح المبالغ التي سينفقونها على الطعام الذي سيوزع على البيوت إلى النازحين ليتمكنوا من مواجهة البرد والجوع، خاصّة بعد أن خفّضت الأمم المتحدة الإنفاق عليهم، وتبيّن وجود ملفّات فساد في توزيع الحكومة للأموال والغذاء عليهم. بلا استجابة. فمع أوّل يوم من شهر محرّم بدأت الأطباق تتسلل إلى المنازل. الجيران يتبادلون الأكلات فيما بينهم، بينما تبثّ الفضائيات صوراً ولقطات للنازحين وهم يرتجفون برداً. وإذا ما كان عامّة الناس يجدون بأن هذا واجباً دينياً عليهم القيام به، فإن السياسيين كانوا أكثر التصاقاً بالبذخ الذي يصاحب الظاهرة وهم يبثّون، من على شاشات الفضائيات التي يملكونها، صور الولائم ومجالس العزاء التي يقيمونها إحياء لذكرى واقعة كربلاء.

زحام وغلاء في الأسعار

ملايين الزائرين المتدفقين من مختلف المحافظات العراقية ومن خارج البلاد، سيراً على الأقدام باتجاه ضريح الإمام الحسين جرياً على طقس ديني متوارث، يضطر الأجهزة الأمنية لإغلاق العديد من الطرق الرئيسة في بغداد والمحافظات لتسهيل انسيابية المرور أمام هذه الأعداد الغفيرة من البشر التي وصلت هذا العام، وفق تقديرات غير رسمية، الى نحو 17 مليون زائر، وقد افترض أن في ذلك الاكتظاظ رداً على الهجمة الداعشية. لكن الإجراءات الامنية الخاصة بالمناسبة تؤثر على معيشة العمال المياومين بشكل خاص، وعلى عمل سائقي سيارات الأجرة (وهي المهنة الأكثر انتشاراً في العراق!).. كما أن طقوس الزيارة الأربعينية تبدأ عادة قبل أيام من حلول المناسبة، وتؤثر بشكل مباشر على عمل مؤسسات الدولة، حيث يتغيب معظم الموظفين عن دوائرهم ومؤسساتهم للتهيؤ لأداء الطقوس من دون أن يتعرضوا للمساءلة لأسباب يدخل بعضها في باب التعاطف أو الخوف، فيما يدخل بعضها الآخر في باب الالتزامات الحزبية. فيتعطل عمل هذه المؤسسات، ولا سيما الخدمية منها، حيث تعاني المدن، وبالاخص العاصمة بغداد من اختناقات مرورية، إضافة إلى تكدس النفايات ونقص الخدمات الأخرى التي تعاني في الأصل من ترهل واضح في أدائها، علاوة على غلق المدارس لأيام عدة.
خلا هذا العام من ظاهرة السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة التي كانت شائعة في الأعوام الماضية، واقتصرت الظاهرة الإرهابية على عدد من قنابل الهاون التي طالت محيط بغداد وبعض أطراف مدينة كربلاء وأدت الى خسائر محدودة... بعكس ملفات الفساد التي أفرغت ميزانية عام 2014 وسط أحاديث عن عجز كبير في موازنة عام 2015 قد يبلغ 30 مليار دولار نتيجة انهيار أسعار النفط، المورد الذي يكاد يكون وحيداً لعيش العراقيين بحكم النظام الريعي المهيمن. ولعل الرعب في قلوب العراقيين من التطبيقات التعسفية المتوقعة للتقشف جعل الناس يلجأون إلى الزيارات الدينية.. تضرعاً. إلا أن الفاسدين هم أيضا يشاركون في هذه المناسبات الدينية.

استعراضات ونفاق سياسي

درج المسؤولون العراقيون "الشيعة" من أعلى المستويات في مفاصل الدولة الى أدناها على حضور السرادق التي تمتد من مشارف بغداد الى محافظة كربلاء (108 كيلومترات) يتسابقون في تقديم الخدمات والمأكولات والمشروبات للزائرين، متلفعين بالسواد، حريصون على تصويرهم وهم في قمة البساطة والخشوع الذي تمليه المناسبة. وإذ انطلت الوضعية على البعض في السنوات الماضية من دون الانتباه الى الاستعراضية والنفاق السياسي والديني، إلا ان هذا العام شهد امتعاضاً واضحاً من قبل الزائرين والناشطين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، حيث صار هؤلاء مادّة علنيّة للسخرية، خاصّة أنها جاءت مع فضائح متتالية للمسؤولين: غرق البصرة جراء الأمطار، بينما كان محافظها يحاول الحصول على دعم المرجعيّة، تورّط ابن شقيق وزير النقل بحوادث الخطف، بينما كان الأخير يلطم صدره في مجالس العزاء، وانكشاف حجم ظاهرة الموظفين الوهميين من مدنيين وعسكريين التي تورّطت فيها حكومة المالكي، بينما كان الأخير يسير من موكب إلى آخر.

محصلة "محرم"

الإمام الذي يقول "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" لم يكن ليرضيه في كل الأحوال هذه التخمة المقدمة للزائرين في حين أن الملايين ينخرها الجوع، كما لا يرضيه بالتأكيد أن توظف قضيته العادلة في المعادلات الإقليمية والدولية التي دفع ويدفع ثمنها العراقيون جوعاً وقتلاً وتهجيراً.
قد لا تستطيع الدولة أن تنظم حجم الزائرين تبعاً لعدد نفوس المحافظات، كما أنها لا تستطيع أن تحدد عدد الزائرين القادمين من دول أخرى، لكنها تستطيع بالتأكيد تشييد طرق وجسور على الطريق الرابط بين بغداد وكربلاء، إضافة إلى بناء مسقفات على مبعدة من الشارع الرئيسي تقدم الخدمات للزائرين، بحيث لا يؤثر على انسيابية مرور السيارات، ومن الممكن أن تنسحب هذه الإجراءات على طرق رئيسية في بغداد تتأثر سنوياً بطقوس الزيارة. كما يمكن للسلطات أن تحد من ظاهرة الغياب التي ترافق المناسبة في المؤسسات الحكومية عبر التنسيق وتنظيم المداورة بما يوفر استمرارها في عملها وعدم الإخلال بتقديم الخدمات المعتادة للمواطنين. وأخيراً، أن تقرر احتساب هذه المناسبة كسياحة دينية لتستفيد من عائداتها في تلبية حاجات الأكثر عوزاً وفي تشغيل العاطلين عن العمل.

 

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...