تنقّل قصي خلال ستة أشهر بين ثلاثة سجون في بغداد. كان قد اعتقل في اليوم الذي سبق عيد الأضحى العام 2013 لتشابه اسمه واسم والده بمشتبه فيه بالقيام بأعمال "إرهابية". حاول الرجل الذي تجاوز الثلاثين من عمره طيلة هذه الفترة التحدّث إلى ضابط من أجل شرح حالته والاستفسار عن سبب وجوده في السجن، وتبيان الفارق في أسماء الجدّ والأم واللقب بينه وبين المتهم المطلوب، إلا أن أحّداً لم يصغِ: "يتم التعامل معنا كأرقام وكموجودات عاديّة" وفق تعبيره.
مع انقضاء الشهر السادس، ووصول قصي إلى الذعر الشديد، خصوصاً مع وجود حالات مشابهة لحالته استمرّ أصحابها منسيين في السجون لأكثر من عامين، عقد قصي "صفقة" لقاء مع ضابط كلّفته 300 دولار، ليتمكن فيما بعد من توسيع الصفقة مع الضابط ذاته من أجل "براءة" كلّفته 3 آلاف دولار، دفعها أهله المعدمون مرغَمين، ليُخرجوا ابنهم من قضيّة لا أحّد يعرف حتّى الآن ما هي على وجه التحديد.
قصّة قصي، المُعتقل العشوائي من قبل قوّات الأمن العراقية، لا تعدّ على مأساويتها بحدث "كافكائي" بالغ المأساوية مقارنة بالقصص التي خرج بها. قصص هائلة الفظاعة. عوائل كاملة تفكّكت، ورجال أصيبوا باليأس بعد فقد كرامتهم بسبب وشاية من مخبر سرّي أو للاشتباه فيهم أثناء مداهمة عشوائية.
هذا جعل قصي، وعلى الرغم مما أُصيب به من إحباط، سعيداً بخروجه بهذا الوقت "السريع"، وبشكل "غير مكلف" مقارنة بما رآه وسمعه عن صفقات جرت بين رجال الأمن وأهالي المعتقلين وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 20 ألف دولار.
اعتقالات اليوم.. اعتقالات الأمس
الاعتقالات العشوائية ليست جديدة كليّاً في العراق، وهي شكّلت أحّد أهم أساليب النظام الديكتاتوري الذي قاد صدّام حسين من خلاله العراق لأكثر من ثلاثة عقود، من أجل السيطرة على البلد وترويع سكّانه وامتهان كرامتهم. وعلى المنوال نفسه، شرّع الرئيس الأميركي جورج بوش الاعتقالات العشوائية في العراق وأفغانستان بعد احتلالهما من قبل الجيش الأميركي، كخطط للقضاء على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول.
عمدت قوّات الاحتلال الأميركي في العراق الى اعتقالات واسعة صاحبَتْها مداهمة منازل العراقيين ليل نهار، متبَعة بشتّى أنواع الإهانة والتحقير والترهيب، وصولاً الى اغتصاب الضحايا. وقد تكون قضية سجن أبي غريب في العام 2004 الأبلغ في وصف ذلك، وإن كان ليست الوحيدة، وقد حكم على المتهمين بارتكابها بعقوبات مخففة كان أقصاها الحبس لثمانية أشهر، بينما الفضيحة مدويّة. إلا أن قوات الاحتلال الأميركي استمرت بتكديس المعتقلين حتّى بلغ عددهم العام 2005 نحو 17 ألف معتقل، جلّهم مشتبه فيه ولم يخضع لأي محاكمة.
"السجن صعب للجميع، لكنه يجري في مصلحة الشعب العراقي لأنه عامل تثبيت للأمن". قال اللواء الأميركي دوغلاس ستون العام 2008، وهو كان يشغل منصب قائد المعتقلات الأميركية في العراق، وذلك لتبرير ارتفاع عدد المعتقلين إلى نحو 23500 معتقل، 90 في المئة منهم "غير مدانين"، بعدما قضوا أشهراً عديدة وراء القضبان.
لكن اللواء الأميركي المزهو بالحفاظ على أمن سكّان العراق، ردّ مستدركاً بسؤال يحمل جوابه مسبّقاً: "لماذا هم موجودون في عهدتنا؟ هم كذلك لأنهم يشكلون خطراً محتملاً". كان ذلك كفيلاً بتأسيس سياسة الاعتقال لمجرد الشبهة غير المسنَدة بحقائق، وتحويل الكثيرين إلى "إرهابيين محتملين"، وبالتالي اعتقالهم دون محاكمة ولو شكلية. لغة النيات هذه التي أفضت إلى تخمة السجون بالعراقيين، والطريقة القمعية التي أُديرت بها شؤونهم، شكّلت في ما بعد أحد أهم أسباب بروز تنظيم "داعش" الذي "دوّخ" العالم بأفعاله، حيث بدأ أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، وبعض مساعديه، التخطيط لتشكيل "داعش" في السجون الأميركية في العراق، وبدأ التجنيد الفعلي للقادة الذين قاموا بعمليات إرهابيّة ضدّ العراقيين بعد ذاك، من داخل تلك السجون.. بسبب العزل المنظّم الذي اعتمدته الإدارة الأميركية للمسجونين في معتقلاتها، وفقاً لأقوال أبو أحمد، مساعد البغدادي، واصفاً سجن "بوكا" الذي أسسته الإدارة الأميركية في محافظة البصرة بـ "الملاذ الآمن"!
وبمعزل عن "داعش"، فإن عقيدة "النيات" التي أدت إلى اعتقال العراقيين لدى الجيش الأميركي، صارت عُرفاً فيما بعد على يد القوّات الأمنيّة العراقيّة، وشكّلت أحد المفاصل التي تُدار بها "الدولة" العراقيّة الجديدة. فقد ازداد عدد المعتقلين على يد هذه القوات. وصار الأمر أكثر سوءاً حين بدأت وزارتا الداخلية والدفاع تؤسسان سجوناً سريّة يتمّ فيها تعذيب المعتقلين في أعوام الاقتتال الطائفي (2006 ــ 2007). بل إن شكوكاً دارت حول وزارات خدمية اتهمت بإنشاء سجون سرّية تدار من قبل ميليشيات تابعة لأحزاب السلطة.
متّهمون حتى تثبت إدانتهم
العام 2009، وقف رئيس الوزراء السابق نوري المالكي على حاجز أمني في أطراف بغداد، وهو يحث جنوداً على الصمود أمام الهجمات الإرهابية، ولم يفته مطالبة الجنود القيام بمداهمات عشوائية (على المنازل) بدلاً من وقوفهم المستمرّ في الحاجز الأمني. وسرعان ما ردّ الجنود بأنهم يقومون فعلاً بالمداهمات، وأنّهم "يقلقون ليل الإرهابيين". آنذاك، كان جميع العراقيين متهمين حتّى تثبت إدانتهم. المداهمات تجري على قدم وساق، وتظهر الصور على شاشات التلفزة رجالاً وقد وضعت رؤوسهم في أكياس سوداء، المشهد مألوف تماماً، فهو تقليد شبه الأصل للطريقة الأميركية.
أما العراقيون في بغداد فقد كانوا سُعداء بأن القوّات الأمنية تقوم فعلاً بواجبها في القضاء على الإرهاب. إلا أن الواقع كان مختلفاً ومأساوياً تماماً، لا يرقى إلى أسلوب "دولة القانون" التي حاول المالكي نفسه تصديرها، بل تبنّى التسمية لائتلافه الانتخابي ليدخل به الانتخابات. ففي العام 2010، كشفت منظمة العفو الدولية عن وجود 30 ألف معتقل يقبعون في السجون العراقيّة من دون "محاكمات"، لافتة إلى أن بعض المعتقلين مضى على وجودهم خلف القضبان أكثر من عام، إضافة إلى تشكيكها بتعرّضهم للضرب أو للإهانة.
وعلى الرغم من أن القانون العراقي يمنع توقيف مواطن من دون أن تكون لدى القوّات الأمنية مذكرة إلقاء القبض، إلا أن أغلب هذه الاعتقالات تتمّ وفقاً لـ "المادة 4 إرهاب" (وهي تشبه إلى حدٍّ بعيد قوانين الطوارئ في البلدان القمعية)، والتي تُعرِّف المجرمين على أنهم "كل من ارتكب أياً من الأعمال الإرهابية" أو "المحرّض والمخطط والمموّل وكل من مكّن الإرهابيين من القيام بالجرائم"، وهي مادة فضفاضة قابلة لتفسيرات عدّة، وتتيح فرض عقوبة الإعدام على كل شخص تتمّ إدانته عملاً بها. وهذه المادة ترتبط، بشكل أو بآخر، بقانون مكافأة المخبرين، إذ غالباً ما تتمّ الاعتقالات بناء على تقارير المخبر السري التي ألغيت من قبل مجلس الوزراء في العام 2013، إلا أن مصادر في وزارة الداخلية تؤكد أنها ما زالت سارية المفعول.
والحال هذه، لم يكن مستغرباً أن يكون إلغاء العمل بالمادة 4 إرهاب، وإلغاء قانون المخبر السري، فضلاً عن المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين الذين بلغ عددهم نحو 130 ألفاً (نفت حكومة المالكي هذا الرقم) على رأس مطالب المتظاهرين في محافظة الأنبار العام 2012، والذين سارعت الحكومة إلى قمع تظاهراتهم واعتصاماتهم.
محسوبية وسجون خربة
لا بدّ أن ينسحب حال الخراب الذي يعيشه العراق على السجون أيضاً، إذ يعاني المعتقلون في 18 سجناً متوزّعاً على عموم محافظات العراق من الاكتظاظ، وغالباً ما يُزجّ في الزنازين بضعف العدد المخصّص لها، علاوة على أن غالبيّة السجون تشكو من خراب بناها التحتيّة لجهة قِدمها وعدم ترميمها، فتطفح المجاري بشكل دائم ما يتسبّب باستشراء الأمراض الجلديّة بين المعتقلين وخاصّة مرض الجَرَب، بالإضافة إلى مرض التدرّن الرئوي (السل).
وعلاوة على كل هذا، تنتشر داخل هذه السجون، كما في خارجها، المحسوبية والتمييز بين المعتقلين، وفقاً لوزارة حقوق الإنسان في العراق. وفي الواقع، شكّل الاعتقال العشوائي، والتعامل مع السجناء في الداخل وأهاليهم في الخارج، إحدى الركائز الأساسية لرفض البيئات المحلية في المحافظات الشمالية والغربية في العراق للحكومات الاتحادية، وترسّخت النظرة إلى هذه الحكومات على أنها قامعة للحريات المدنية، بل ومتقصدّة في أحايين كثيرة بإيذاء الناس وإذلالهم.
وقد زاد طين الأمور السيئة بين هذه البيئات والحكومة بلّة، حين أنكر السياسيون المقرّبون من المالكي ادعاءات المعتصمين في الأنبار العام 2013 وجود معتقلين من أبنائهم من دون تهم في السجون العراقية. إلا أن الوقائع سارعت إلى تكذيب الإنكار ذاك، فقد أعلن القضاء العراقي الإفراج عن أكثر من 150 ألف شخص في العام 2014 وحده، والكثير من هؤلاء متهمون لم تتم إدانتهم، ووتيرة الإفراج هذه تصاعدت أيضاً خلال العام الجاري (في محاولة لإرضاء البيئات الرافضة للعملية السياسية)، إذ تؤكد بيانات مجلس القضاء الأعلى الإفراج عن أكثر من 45 ألف متهم لم تثبت إدانتهم خلال الخمسة أشهر الأولى من 2015.
الإرهاب والديموقراطية
بمقابل هذا الواقع المزري، والفشل الأمني الذي يقود إلى الاعتقال بالجملة بمجرد الشكّ أو الاشتباه، تقف منظمّات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان صامتة أمام هذا الهول، معلّلة ذلك بخطاب الحكومة نفسه، الذي يستمر بترديد أن البلاد في "حالة حرب" ضد قوى "ظلامية". والأكثر خزياً من كل هذا هو دفاع البعض عن ضرب أو تعذيب السجناء. وفي هذا المفصل بالذات تتوقف مجسات الديموقراطية وحقوق الإنسان لدى هؤلاء، ويصابون بالغفلة. فالقصص العديدة والكلاسيكية عن تعرّض السجناء إلى التعذيب والتحقير دفعتهم إلى القيام بأعمال أكثر بشاعة بعد إطلاق سراحهم، ما تزال هذه المتلازمة سارية المفعول.
وثمّة مَن يتساءل ماذا على "الدولة الديموقراطية" أن تفعل وهي تواجه كل هذا الإرهاب؟ والسؤال الذي يجب طرحه هو على العكس تماماً: كيف بلغ الإرهاب هذا المبلغ؟ وكيف تحافظ "الدولة الديموقراطية" على القيم والأخلاق في لحظات كهذه؟