العراق: جيل الحصار يساوم الجوع من جديد

عثر الجيران على العائلة المتكوّنة من خمسة أفراد موتى بعدما تشبّعت أجسادهم بالسمّ. كان اليأس قد تسرّب إلى الوالد حين فقد عمله ولم يعد باستطاعته تأمين الطعام. ولسدّ الجوع أخذ أوَّلاً ببيع أثاث بيته، وأمّنت نقود غرفة نومه الخشبيّة أشهراً في عيش كفاف، ثم باع طقم المقاعد المخملي وبعدها أدوات المطبخ والسجّاد. وبعدما نفدت جميع حاجياته، ذهب بسترته الجلدية اليتيمة إلى المزاد ليبيعها. لم يبقَ
2015-11-19

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
تصوير: هاتف فرحان-العراق

عثر الجيران على العائلة المتكوّنة من خمسة أفراد موتى بعدما تشبّعت أجسادهم بالسمّ.
كان اليأس قد تسرّب إلى الوالد حين فقد عمله ولم يعد باستطاعته تأمين الطعام. ولسدّ الجوع أخذ أوَّلاً ببيع أثاث بيته، وأمّنت نقود غرفة نومه الخشبيّة أشهراً في عيش كفاف، ثم باع طقم المقاعد المخملي وبعدها أدوات المطبخ والسجّاد. وبعدما نفدت جميع حاجياته، ذهب بسترته الجلدية اليتيمة إلى المزاد ليبيعها. لم يبقَ أمامه سوى المدفأة، فذهب بها إلى المزاد مجدداً واستبدل أموالها بدجاجة مشويّة وبعض الحلويات وعُلبة من سّم الفئران. تحلّق أطفاله حول المائدة، انقضوا على الطعام حتّى أنهم "قرقطوا" عظام الدجاجة وناموا محتضنين والديهم، وفي اليوم التالي لم ينج أحد. أنهى الوالد حياة العوز التي عاشتها عائلته بالانتحار.
حدث ذلك في أواسط تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت صحف النظام الديكتاتوري تنقل قصص انتحار جماعية لعائلات فقيرة، مُحقِّرة هذا الفعل، نازعة عنه صفات الإيمان والصبر التي أوصت بها الديانات السماوية.
بالمقابل، كانت عصابات الجريمة والسرقة والدعارة تنتشر، تتعاون في تنفيذ أعمالها مع شبكة أقرباء صدّام حسين أو أعضاء حزبه في السلطة القابضة على البلاد بالحديد والنار. كانت اعترافات المجرمين على شاشات التلفزة مسبوقة بحملة إعلانيّة تتحدّث عن حزم أجهزة الأمن وذكائها الذي يقود إلى اعتقال المخلّين بالقانون ومثيري القلاقل التي توخز أمن سكّان بلاد ما بين النهرين.
وفي أيام الأزمة التي يعيشها العراق اليوم، يستعيد العراقيون القصص التي ما زالت طريّة في ذاكرتهم، إذ بدأت بعض ملامحه تعيد إنتاج نفسها على شكل مأساة. وسائل الإعلام تنقل بلا هوادة قصصاً عن عصابات تسرق السيارات أو تخطف الأطفال أو التجار، وبالمثل تتحدّث بيانات السلطة وإعلامها عن دورها في ملاحقة هؤلاء والاستمرار بالترويج بأن لا أحد فوق القانون.

الجوع بين زمنين

شكّل عقد التسعينيات إحدى أكثر مراحل العراق مأساة وجوعاً وفاقة. 45 في المئة من سكّان البلاد يعيشون تحت خط الفقر المدقع، البطالة في أعلى معدّلاتها، الهجرة تتسع، عمالة الأطفال تتفاقم، ومعها التسرّب من المدارس، والسلطة تزداد شراسة وقمعاً، والعالم (بالمعنى الفعلي) يزداد تغوّلاً وهو يُعاقِب العراقيين على غزو صدّام حسين للكويت، برغم المؤشرات التي تُفيد بأنه غزاها بعدما حصل على ضوء أخضر من أميركا.
ولأنّ الشباب يشكلون نحو نصف المجتمع العراقي، ولأنّهم ولدوا وشبوا في ذلك العقد القاسي، فهم اليوم يعودون لافتراش تاريخهم الشفاهي ونبشه. اليوم تقترب المؤشرات والإحصائيات عن حال البؤس الذي بلغه السكّان من تلك في ذلك العقد. كان الاقتصاد وشدّ الأحزمة يشمل كل شيء، حتّى أجساد الحيوانات على الموائد، فقد اشتهرت في تسعينيات القرن الماضي مرقة رأس السمك الخالية من أي لحم.. تضيف نكهة "الزفر" إلى المرق. هكذا يظلّ الخوف من استعادة هذه الحياة المضنية ماثلاً في "عراق الديموقراطيّة".
وإذا كانت حكومة "القائد الضرورة" قد خفّضت رواتب الموظفين، وتعدادهم وقتها كان نحو مليون موظف، إلى نحو دولارين شهريّاً، فإن الحكومة التي يترأسها حيدر العبادي فصّلت سلّماً جديداً لرواتب الموظفين البالغ تعدادهم اليوم نحو 6 ملايين، يخفّض دخولهم الشهرية إلى نحو النصف، وهو ما لا يسدّ بدل الإيجارات المرتفعة للمنازل، وتأمين أسعار الحاجيات المستوردة من إيران وتركيا والأردن ودول الخليج، فضلاً عن بعض المواد الأوروبية، التي حلت مكان البضاعة المحلية الكاسدة في المصانع، أو ما تبقى منها.. ما قاد إلى أزمة في القطاع الخاص أيضاً الذي اتخذ بدوره إجراءات تقشفية بحق موظفيه.
العودة المعنوية إلى سنوات الحصار العجاف تلك ليست محض استعارة. فتتناقل الأنباء حالات انتحار في محافظات مختلفة لا يُعرف على وجه التحديد الأسباب التي دفعت إليها. ويضاف إلى كل هذا أن ثمانية ملايين عراقي من إجمالي 32.5 مليون نسمة يعانون من الجوع، ونحو 3 ملايين نازح يعيشون في خيام تحت تهديد الأمطار والبرد القارس، بل يخشى الميسورون ممّن تبقّوا من الطبقة الوسطى من اقتناء سيارات حديثة لئلا يتعرّضوا للخطف أو القتل بسبب إثارة شهية العصابات المنظمة، وانطلقت إبداعات جديدة في السرقة تتلخّص بسلب رواتب المعلمين عند أبواب المصارف.

المحلية والعولمة

بيد أن مزاحمة الحياة للموت حتى في أحلك أيامها كانت قد دفعت المجتمع العراقي إلى إبداع سبل العيش في مقابل "إبداع" الديكتاتور في صناعة أدوات تعذيب وتحقير (منها بناء القصور والجوامع) في التسعينيات حينما حوصرت البلاد. أخذ المجتمع يخلق سلع ومنظومات تكافل اجتماعي تمدّ من بقائه. وساعدت الحصّة التموينية التي ضمنها برنامج "النفط مقابل الغذاء" في عدم موت العراقيين جوعاً، على الرغم من رداءة ما كان يُقدَّم من طحين وأرز شبيه بعلف الحيوانات. لكننا في الواقع كنا "زومبيات" تحوم على الأرض، عيوننا تحوطها هالة سوداء، وسراويلنا مشدودة بأحزمة خشية أن تسقط.
كان اعتماد السكّان على الصناعات "المحليّة" منفذاً أساسياً للنجاة من الهلاك. رُتبت الأعمال والصناعات الصغيرة على عجالة في المنازل وصارت تُفرد في الأسواق، فأمّنت قوتاً. أما اليوم، فالعراق مشرّع الحدود: تدخل كل السلع من دون ضرائب، تنتشر في الأسواق شتّى أنواعها وأصنافها، حتّى أن الأعلام العراقيّة التي يُلوّح بها المتظاهرون، والأعلام السوداء التي تعلّق إيذاناً بقدوم شهر مُحرّم.. تأتي من الصين. الجميع يستهلك ولا إنتاج يُذكر. صار كلّ شيء معولماً، حتّى الإرهاب الذي يُسيطر على ثلث مساحة العراق. علاوة على كل هذا، تغيب الحصّة التموينية التي توفّرها الحكومة، وتغيب معها الرقابة على أسعار السلع الغذائية بسبب ضعف ضبط السلطة للسوق، إن ما لم يكن أيضاً في ذلك مراعاة لسيطرة أحزاب وعشائر على التجارة والأسعار.
ووفقاً لأطلس الأسى هذا، فماذا تبقى للعراقيين، وحكومتهم تأكل من الاحتياطي النقدي الذي انخفض خلال عام واحد من 70 إلى 60 مليار دولار، وتحاول إقرار موازنة تبلغ نحو 120 مليار دولار، وتعاني مسبقاً من عجز يبلغ نحو 35 في المئة، وتلاحق الموظفين بشائعات عن عدم قدرتها على دفع مرتّباتهم خلال أشهر قليلة مقبلة، بعدما أعلن رئيس الحكومة صراحة أن البلاد تواجه شبح الإفلاس. في واقع الحال، لم يبق شيء يُذكر.
وإن تكن القصص المتكررة والمروعة عن الانتحار هي لسان حال مجتمع يحتضر أفراده من دون مغيث، فإن اتساع بقعة الجريمة كثيرا تعطي معنى واضحاً لمعنى الانفلات والفوضى والجوع أيضاً الذي بلغه العراق. تفتخر وزارة الداخليّة بأن محافظة واسط سجّلت أقلّ نسبة جرائم مقابل المحافظات الأخرى، ولكنها إحدى أصغر المحافظات حجماً من حيث المساحة وعدد السكّان البالغ نحو مليون نسمة، وقد سجّلت خلال شهر واحد 45 جريمة بين خطف وسلب وسرقة. وفي مجتمع عشائري يطبق قوانينه وأعرافه وسننه الخاصة، ويأخذ حقّه بيديه، فبإمكان المرء أن يستنتج أن هذا الرقم يتضاعَف فعلياً عدّة مرات، هنا وفي محافظات أخرى.
بموازاة هذا، هناك مسلك آخر تتخذه الجماعات المسلحة عبر اعتماد الجريمة كخيار في صراع البقاء للحصول على نصيب أكبر من خريطة العنف المتشعّبة في العراق، والتي تتيح لها، بطبيعة الحال، تلقّي أموال وفيرة ونفوذ في المناطق التي تسيطر عليها.
لم يُسلّم العراقيون لحالهم تحت الحصار في التسعينيات فاحتجوا وانتفضوا فلم يسْلموا من أبشع أشكال القمع التي انتهجها صدام حسين ونظامه، خاصّة بعد فشل الانتفاضة في جنوب ووسط العراق عام 1991. هذه الأيام، وإن تغيّر شكل السلطة، إلا أن الأفق عاد يضيق ويُسَد بالكامل أمام أجيال كبرت في ظل ذلك البؤس. تفيض بئر اليأس، وما الهجرة عبر بحر إيجه التي خاضها العراقيون جماعات إلا دليلاً عليه، علاوة على يأس المتظاهرين من مدى قدرتهم على "إصلاح العمليّة السياسيّة". وهي التي يردّد أحد "أبطالها"، اياد علاوي، أنها وصلت إلى طريق مسدود، وأن "المحاصصة" التي كانت دعامة لوجود النظام صارت عبئاً، والدستور الذي تفاخرت به الأحزاب السياسيّة تبيّن أنه أيضاً نصّ حمّال أوجه يجري تفسيره وفقاً لإرادة الأقوياء في السلطة.
كلّ هذا يزيد الخوف من الحال الذي ستؤول إليه البلاد مستقبلاً، ويجعل الفوضى خياراً ماثلاً أمامها.

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...