بغداد أخرى يصنعها المعْدَمون

لم تعد لبغداد ملامح أثيرة. يَصفن الناس بالصور التي يكشفها تاريخ مدينتهم غير البعيد وهم يخمِّنون أو يؤشِّرون، مرتبكين، إلى هذه السّاحة أو تلك، إلى هذا المَعَلم أو ذاك، بعد أن تغيّر الكثير في العاصمة التي كانت تحلم دولٌ بأن تكون على شاكلتها. هكذا، يفرش أهل بغداد تاريخ مدينتهم. يستعيدون الكلمات التي قالها أناس مشهورون بحقِّها، ويعرف الجَميع أنّها صارت "خرابة كبيرة". لم تحفظ ماضيها
2015-12-17

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
صادق كويش الفراجي - العراق

لم تعد لبغداد ملامح أثيرة. يَصفن الناس بالصور التي يكشفها تاريخ مدينتهم غير البعيد وهم يخمِّنون أو يؤشِّرون، مرتبكين، إلى هذه السّاحة أو تلك، إلى هذا المَعَلم أو ذاك، بعد أن تغيّر الكثير في العاصمة التي كانت تحلم دولٌ بأن تكون على شاكلتها. هكذا، يفرش أهل بغداد تاريخ مدينتهم. يستعيدون الكلمات التي قالها أناس مشهورون بحقِّها، ويعرف الجَميع أنّها صارت "خرابة كبيرة". لم تحفظ ماضيها وشوارعها وأبنيتها ومؤسّساتها وعمارتها، ولم تبنِ حاضراً يليق بتاريخها. بغداد اليوم هي مدينة قاسية والعيش فيها صعب ويتطلّب جلادة لا تحتمل نواحاً على أطلال وخرائب، فيما يجد الناس أنفسهم وسط أزمة سكن خانقة تدفعهم إلى ابتكار قدرة على استثمار الخراب للبناء على أنقاضه.. أو إلى جانبه أو من مخلّفاته.
وبشطارة وحنكة من خبر مرارة العيش والمللّ من فساد الحكومات وإهمالها، أسّس ابنْا عمّي ما يشبه مدينتين جديدتين داخل بغداد، حالهم بهذا حال "شطّار" كثر أسّسوا مُدناً أخرى على تخوم المدينة الأم ومركزها أحياناً، وهي التي يلفظ غلاءها الشيبة والشبّان. أحمد كان أوّلاً: باع سيّارته واستدان مبالغ ماليّة من اصدقائه وعائلته ليجمع 10 آلاف دولار ويشتري قطعة أرض في منطقة النهروان جنوب شرق بغداد. كان قد ضاق ذرعاً بمبالغ الإيجار التي فاقت قدرته على احتمالها. فكرته وبناؤه البسيط لمنزله هناك سرعان ما أثار شهيّة أبناء العائلة الآخرين فحذوا حذوه. الجميع يعرف الجميع، وثمّة عدد من الرجال كبار السنّ يحلّون الخلافات بينهم. كَوّنوا ما يشبه الإمارة.. لحقه عباس. اشترى أيضاً أرضاً وبنى عليها منزلاً في منطقة جسر ديالى وكوّن هو الآخر إمارته بعد أن جلب آخرين من العشيرة ليسكنوا هناك.

عشوائيات

النهروان وجسر ديالى وسواها من المناطق المتأسّسة على هذه الشاكلة كانت مناطق زراعية نائية على أطراف العاصمة، واليوم يجري فيها إعمار المنازل ليل نهار. منازل صغيرة تُبنى، وطُرقات غير معبّدة تشقّ، ومدارس بعيدة يمخر الأطفال في المياه الآسنة للوصول إليها. هذي المُدن الجديدة التي أقيمت على أراضٍ زراعيّة تحقّق حلم الشبّان في السكن. وفي هذه المدن المعروفة رسمياً بـ "العشوائيات"، يترتّب إلى جانب المنازل بناء الأعمال الصغيرة مثل محال بيع الخضار ودكاكين بيع المواد الغذائية ومحال تصليح السيارات. مُدن تكتفي بنفسها، حتّى أن الحكم فيها تديره العشائر، ولا مراكز شرطة. ولذا فالقانون هو الأعراف والسنن العشائرية. وبعد أن غابت المستشفيات والمستوصفات، أخذ المُضمِّد (الاسم العراقي للمُمرِّض) يُدير الشؤون الطبيّة إلا في ما يتعلّق بالعمليات الجراحية الكبرى، والقابلة تستعيد زهوَها وهي تسحب أطفالاً من أرحام أمهاتهم وتقذفهم إلى الحياة، ليصبحوا أحَد محرّكات النمو السكّاني الذي يبلغ 3.5 في المئة سنويّاً.
بغداد التي رسَمها أبو جعفر المنصور بالنار والقطن على شكل دائري العام 762 ميلادية، وثاني أكبر المدن في آسيا الغربيّة بعد طهران (تبلغ مساحتها 4.555 كيلومتراً مربّعاً)، صارت تركاً للسكّان، يخطّطونها ويوسّعونها دونما أيّة حِسابات للمستقبل أو اعتبار للماضي.
على مدى عقود أربعة (1958 ــ 1984) استعانت الحكومات المتعاقبة على حكم العراق بأربع شركات تطوير مديني كُبرى من أجل تخطيط بغداد، والعمل على توسيعها تحسّباً لاستيعاب عدد نفوسها المتزايد باطّراد. إلا أن الوضع السياسي الذي ظلّ يتخبّط، علاوة على الحروب، حال دون تنفيذها، وصارت الواحدة من هذه الخطط تلغي الأخرى مثلما يلغي النظام السياسي الجديد القديم، حتى وصل الأمر إلى الفوضى.
وهكذا حدت الفوضى بنحو مليون و600 ألف شخص إلى العيش في عشوائيات تتوزّع على 127 منطقة، وفقاً لمحافظة بغداد. هؤلاء يشكلون فائضاً سكانياً تلفظه بغداد على التوالي. فإلى جانب زيادة عدد الولادات في بغداد، فإن الوافدين إليها، لاسيّما أثناء حرب الثماني سنوات مع إيران، ومن ثَم حرب الخليج الثانية وما لحقها من عقوبات اقتصادية، رفع تعداد سكانها من 2.2 مليون نسمة في العام 1970 إلى 5.5 ملايين العام 1997. وبعد احتلال بغداد في نيسان / ابريل 2003، عاد العدد ليصبح عام 2007 نحو 8 ملايين نسمة. إلى كل هذا يُضاف أن بغداد كونها المركز السياسي والاقتصادي للعراق، فهي ما فتئت تثير شهيّة أولئك المعدَمين في المحافظات الشماليّة والجنوبيّة، الذين باتت أراضيهم بوراً بسبّب شحّ المياه، بالهجرة إليها للحصول على أعمال تقيهم شرّ الجوع الذي حلّ بمدنهم ونواحيهم.

سماسرة

والحال هذه، إنّ فشل الحكومات المتعاقبة على الحكم منذ احتلال بغداد وحتّى الآن لا يقتصر على إرساء تخطيط وتنظيم حضَري للمدينة، بل ويمتد إلى هذه العشوائيات التي لا تحصل على أي من الخدمات الحكومية وتفتقر إلى الحدّ الأدنى من البنى التحتيّة (إلا وفق صفقات زبائنية في بعض الأحيان بمواسم الانتخابات)، الأمر الذي يضطرّ سكانها، إلى مدّ خطوط المياه والكهرباء وتعبيد بعض الطّرق بجهود شخصيّة. كما نشأت في محيط هذه المناطق معامل صناعة الآجر وبعض الصناعات الأخرى الملوَّثة للبيئة، بيد أن السكّان لا يرون الضرر في ذلك مقابل الفوائد العائدة عليهم من هذه المعامل، إذ تمثّل مصادر رزق لعائلات نحو 40 في المئة من الرجال كعمّال فيها، وهناك أيضاً 40 في المئة رجال العشوائيات من الكَسَبة العاملين في المهن الصغيرة، و10 في المئة يعملون في الفلاحة، ولا يبدو مستغرباً أن يقدّر عدد العاملين في المؤسسات الحكومية بنحو 5 في المئة فقط، لكونها تتطلّب شهادات جامعيّة.
ولا يجري كل هذا وفق منطق "الأرض لمن يزرعها"، فهذه المناطق التي تشبّ وتكبر خلال سنوات قليلة يقف خلف ملكيّتها عدد من السماسرة المتعاونين مع أحزاب السلطة. بعض هذه الأراضي تعود ملكيّتها إلى الدولة ويتمّ تأجيرها إلى تجّار بغرض الزارعة، إلا أن صفقات مع المؤجرين تُجيز البناء عليها وتقسيمها. أما بعضها الآخر فتعود ملكيته لمزارعين قدماء أدّى عدم حصولهم على حصص مائية للري وانتفاء الحاجة أساساً إلى الزراعة بسبب تشريع الحدود للخضار المستوردة، إلى أن يعدِّلوا خططهم واستثمار أراضيهم بمشاريع أجدى، فاستعانوا بمهندسين بعضهم من البلديّات المحليّة وبعضهم الآخر من خارجها ليخطّطوا الأرض ويقسمّوها على مساحات بين 100 و200 متر ويبيعوها إلى من يشبه عباس وأحمد.
عبّاس يحاول إقناع الجميع بالانتقال إلى "مدينته"، إذ يصرّ على أنّها تقترب من أكثر المُدن تحضّراً. هو الذي يظلّ يتحدّث عن خطّط سكّانها المستقبليّة في شقِّ طرق تجعل وصولهم أقرب إلى مركز العاصمة، فضلاً عن حصوله على وعودٍ من سياسيين بتحويل الفئة التخطيطية للأرض من "زراعية" إلى "سكنية"، ما يرفع أسعار المنازل هناك كما حصل في بعض المناطق أثناء الانتخابات البرلمانيّة الماضية.
كنت أخبره وهو يحاول إقناعي بالانتقال إلى هناك، بأن هذه المناطق لا يمكن أن تشكّل بيئة حضرية في المستقبل لأن تخطيطها عشوائي، وسكّانها من لون طائفي واحد إذا لم يكونوا من عشيرة واحدة، إضافة إلى ضعف الخدمات وتلوّث البيئة. إلا أنّه سارع إلى سؤالي: ماذا عن الكرادة؟ ماذا عن الدورة؟ وحتّى المنصور! ما كان يدلل عليه عبّاس بهذه المقارنة ما بين منطقته وهذه الأخيرة الفخمة، هو اصطباغ حتى هذه بسمة طائفية واحدة، سنيّة أو شيعية، بالإضافة إلى أن الخدمات فيها تدّنت إلى درجات جعلتها تقترب من بعض المناطق العشوائية التي أسسها سكّانها، فباتت متهالكة بغالبيتها وتحولت منازلها إلى مخازن للتجّار ومكاتب للشركات.
المستقبل للأطراف. يُجمع "أصحاب" هذه المدن. وهي وحدها التي يستطيع المرء شراء منزل فيها بمئة متر قد لا يُكلِّف أكثر من 30 ألف دولار. أما الخدمات فهي قادمة لا محال، لأن هذه المدن تتسع على التوالي، ولأن أهلها سـ "يخربون" الدنيا لو حاولت الحكومة المساس بها أو هدمها. بل أكثر من ذلك، فإن مواسم الانتخابات التي تأتي كل أربع سنوات لا تمثّل للمعْدَمين سوى مناسبة للمساومة على أصواتهم مقابل تعبيد الشوارع وأعمدة الإنارة وبناء المدارس والمستوصفات. الأصوات غالية في بغداد، لكن المدينة ومستقبل مجتمعها وأهلها أرخص مما يتخيّل المرء.

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...