بغداد.. بالأحمر والأخضر

 يُسيطر الخوف اليوم على جميع العراقيين من المصير الذي يتهدّدهم بعد مرور عام على احتلال مدينة الموصل، ما ألغى الحوار بشأن الأخطاء المتراكمة التي أدّت إلى وصول البلاد إلى الحال التي هي عليه. وتبدو أكثر الآراء انهزامية هي تلك التي تعتمد على نظرية "المؤامرة" في تبرير اجتياح تنظيم "داعش" لثلث مساحة البلاد وما خلّفه من خراب، فضلاً عن إعادة إنتاج السلطة ذاتها. وتحاول هذه
2015-06-25

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
سيروان باران

 يُسيطر الخوف اليوم على جميع العراقيين من المصير الذي يتهدّدهم بعد مرور عام على احتلال مدينة الموصل، ما ألغى الحوار بشأن الأخطاء المتراكمة التي أدّت إلى وصول البلاد إلى الحال التي هي عليه. وتبدو أكثر الآراء انهزامية هي تلك التي تعتمد على نظرية "المؤامرة" في تبرير اجتياح تنظيم "داعش" لثلث مساحة البلاد وما خلّفه من خراب، فضلاً عن إعادة إنتاج السلطة ذاتها. وتحاول هذه الآراء منح تحليل "السلطة الجديدة" صفات الترف والترفّع عن الواقع، وقد أدت فعلياً إلى تفسير هذا الكم من الأخطاء وكأنه وقع بفعل كارثة طبيعية أو سوء إدارة بأقصى حدّ.
لكن هل فعلاً ناقش العراقيون، أو تداولوا، في شكل "دولتهم" وعلاقتهم بها على مدى العقود السابقة؟ هل مُنحوا هذا الحق والمساحة لتكوين رأي عام من أجل تعديل صيغة حياتهم؟ ببساطة لم يحظ العراقيون بأي من هذا، إذ منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، كانت "الدولة" العراقية وشكلها والحاجة لمعاقبتها أو انقاذها، محط نقاش دون أن يتم فهم مسارها.

عراق الديكتاتورية

في نيسان / أبريل عام 2003، أي لحظة سقوط النظام البعثي، اندفع العراقيون إلى الشوارع ودوائر الدولة لتحطيمها وحرق بعضها ونهب محتوياتها، فيما آثر مثقفون وأكاديميون البقاء في بضع دوائر رسميّة للحفاظ على موجوداتها. كان مشهد لفوضى عارمة. حينها، وصف الإعلام الغربي والعربي العراقيين بأنهم لصوص وفوضويون و "ضدّ الدولة"، فيما خفّف آخرون من على المنابر الإعلامية من لهجة الاتهام لمجتمع بكامله بتبرير أن العراقيين كانوا جياعاً طيلة فترة الحصار الذي استمر لأكثر من عقد من الزمن، وكانت ردّة فعلهم الغاضبة نتيجة طبيعية للثأر من سنوات الذل التي قاسوها، وللانتقام من السلطة في آن.
حمل التبرير الأخير جانبا كبيرا من الصحّة، لجهة وقوع نحو 40 في المئة من المجتمع في الفقر المدقع، إلا أنه في الوقت ذاته عازه أيضاً التحليل العميق لنظام البعث الذي سيطر على البلاد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وأخذ يضيّق على المجتمع يوماً بعد آخر محتكراً حيزه العام ومقلصاً إياه الى أبعد الحدود. أسقط هذا الإحكام على حياة العراقيين خطاب "الدولة التي تحمي الأفراد"، إذ عملت سنوات البعث على انهيار مفهوم المواطَنة العراقية وانكفاء الفرد والكل العراقي عن الهامش السياسي.
احتكر البعث لنفسه الحيّز العام لضمان السيطرة على مجتمع عُرف تاريخياً بتمرده وبأنه "لا يُحكم". وانشغل بإقامة الفعاليات الداعمة لنظامه، وخاصّة في المناسبات التي تخصّ صدّام حسين نفسه، ولاسيما عيد ميلاده في 28 نيسان/ابريل من كل عام، الذي يحفظه العراقيون عن ظهر قلب بسبب الهالة الكرنفالية التي تحيط به. أتى احتكار سلطة البعث للحياة طرديّاً مع منع العراقيين من القيام بأي فعاليّة لا تدعمها، وكان قد سبق ذلك موجة إعدامات واسعة لاحقت المعارضين للنظام، أو حتى غير الممتثلين من بين صفوف البعث نفسه (وليس فحسب من اتهم بالتخطيط لانقلاب)، وطالت بعض قياداته أو رموزه.
وبالتوازي مع اختزال المجال العام على هذا الشكل، تحوّلت السلطة إلى منظومة قرابية. ولإحكام السيطرة أكثر، أشاعت السلطة في تسعينيات القرن الماضي "عرُفًا" يمنع التجمّع في الأماكن العامّة لأكثر من 4 أشخاص، ما أعدم الحديث ونقد السياسة بشكل كامل، وإلا فسيواجه "المواطن" بالإعدام أو بحزّ الرقاب من قبل منظمة "فدائيو صدّام" التي كانت قد وُلدت منتصف التسعينيات، بإشراف عُدي النجل البكر لصدّام حسين.
سَدّ الطريق على العراقيين للحراك السياسي بكافة صوره، تَلازم بالضرورة مع إغلاق نشاطاتهم في المؤسسات التي تدير البلد ومن المفترض أن تعمّره وتقدم الحماية لسكانه.. أو بالأحرى مواطنيه. فعلياً أدى غياب "المواطن" عن دولته إلى تجويف مواطنته وانهيارها "بالسهولة" التي تبدت في لحظة 2003. وعلى الرغم مما حملته من دمار، كانت مشاهد العنف والفوضى مع سقوط الدولة تعني - من بين ما تعنيه - انتقاما من السلطة واستعادة للبلاد. بيد أنها كشفت أيضاً عن عمق الخراب الذي طال علاقة العراقي بدولته وبمنظوره لها. والواقع انه غاب عن تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ العراق الحديث عن أي خطّة من صنيع العراقيين أنفسهم لإعادة إنتاج الدولة الجديدة.
وبالمقابل، وبطبيعة الحال، لم تحمل الأحزاب التي ذهبت إلى الأمم المتحدّة للاعتراف باحتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق، أي خطط لإنقاذ البلاد والمجتمع من "الهشاشة" التي لحقت بهما جراء حربين متتاليتين وحصار اقتصادي صُنّف على انه الأقسى دولياً. أكثر من ذلك، وظفت تلك الاحزاب هذا لتبني على ركامه "العراق الجديد".

العراق "الجديد"!

وفقاً للتدبير الأمني الذي تلا الغزو الأميركي للعراق بعد نيسان / أبريل عام 2003، قُسّمت بغداد إلى لونين، الأحمر والأخضر، ولا مكان للعراقيين خارج هذه المساحات الكولونيالية الملونة.
أسس اللون الأخضر الذي خطّه الأميركان، بمساعدة نخبة من أبناء البلد، لما يُعرف اليوم بـ "المنطقة الخضراء"، معقل الحكومة العراقيّة والحكومات الأجنبية بسفاراتها ومفوضيها، المسوّرة بالحواجز والسواتر الكونكريتية ونُظم المراقبة الإلكترونية التي يحرسها آلاف من القوّات الأمنية، والتي قسمت بدورها إلى ثلاث مناطق بحسب أهميّة المسؤولين داخلها. ويمنع دخول السكان إلى هذه المنطقة الممتدة على مساحة حوالي 10 كلم، وهي تضم ساحة الاحتفالات التي كان النظام السابق يوظفها لغرض الاستعراض العسكري والمناسبات التي تخص ذكرى تأسيس حزب البعث في 7 نيسان/ابريل، بالإضافة إلى الجسر "المعلّق" الحيوي، الذي يربط بين كرخ بغداد ورصافتها.
أما اللون الأحمر فقد وظفه الأميركان للدلالة على مناطق الخطر التي يجب على المسؤولين والدبلوماسيين الغربيين تجنبها، خشيّة تعرّضهم للتفجيرات أو للاغتيال. وبالطبع كانت هذه المنطقة هي بغداد التي سيعيش في ظلالها نحو 8 ملايين نسمة وهم يواجهون موتهم كل يوم، بسبب الكرّ والفر الذي يعيشه السكّان مع التنظيمات الإرهابيّة التي باتت تقلّص المساحات العامّة على أهالي بغداد بالتفجيرات التي تستهدف كل مكان بدءاً من الشوارع العامّة والأسواق وصولاً إلى المقاهي والنوادي والحانات.
في الجانب الأحمر من بغداد، حيث ينتشر الموت والفقر وتغيب العدالة الاجتماعية، تعاونت سلطة الأحزاب مع سلطة الدين (الذي هو عماد تجربتها)، إذ تتشكّل السلطة السياسية العراقية من الأحزاب الإسلامية وفق منهج المحاصصة في تقاسم المناصب والنفوذ، وهو الذي أرساه الاميركان كنظام متكامل تحت عنوان "ديمقراطية المكونات". بهذا أسست سلطة الأحزاب وشجّعت منظومة من رجال الدين داعمين لخطاب الأحزاب ومُدافعين عنها ومروّجين لبقائها. خلق هؤلاء (وما زالوا) من خلال خطبهم الدينية التي لا يمكن تجاهل طغيان حضورها في الحيّز العام، الأعذار للسلطة لعدّم توفّر الأمن والرفاه الاجتماعي من خلال رمي اللوم على "خونة" داخل العمليّة السياسية، وفي بعض الأحيان الذهاب أكثر في التطرّف من خلال تبادل الاتهامات بين "طوائف" بأكملها بـ "عرقلة" بناء الدولة "الديمقراطية" الجديدة. لقد تمّت بهذا الشكل ممارسة قوّة الخطاب على المجتمع من خلال القصص والآيات المختارة لحثّ الجلاّس على الصبر، وانتظار "الفرج" الذي سيفرزه "الإيمان"، وترك المقصرين لله ليقتص منهم.

بغداد بلا رأي

أتى العقد التالي للاحتلال ليقضي على ما تبقى من ارتباط العراقي بدولته، بتفتيته الهوياتي وانعدام الأمن في حيزه العام وانسحاب ذلك على حيزه الخاص. وقد سيطرت الأحزاب المنخرطة في العمليّة السياسيّة على المؤسسات الإعلامية المحليّة، وصارت أغلب وسائل الإعلام مملوكة لحزب ما أو مدعومة منه، وتم القضاء على بعض محاولات ولادة إعلام مستقل من خلال منعها من الاستفادة من الإعلانات الرسمية على صفحاتها (وإعلانات السلطة تمثّل المصدر الرئيس لتمويل الإعلام في العراق)، وخاصّة مع إغراق الأحزاب لسوق الإعلام المكتوب بالصحف الصفراء، الأمر الذي جعل شركات التوزيع تقبض أموالاً مقابل توزيعها.
ولا يبدو صادماً أيضاً، وسط الفقر الذي بلغ 30 في المئة من المجتمع، فضلاً عن ارتفاع مستوى الأميّة عند الشباب (حوالي 13 في المئة)، أن يكون مستخدمي الانترنت ـ وهو الذي يشكل حيزاً عاماً افتراضياً ـ حوالي 4 ملايين عراقي فحسب، يتركّز أغلبهم في إقليم كردستان العراق، الأمر الذي يجعل التفاعل في هذه الشبكة شحيحاً، ولا يشكّل رأيّاً ضاغطاً على السلطة.
والحال تلك، فإنه يمكن إعادة عدم نشوء فعاليات مدنيّة مثل حركات رسم "الغرافيتي" على جدران مدن بغداد (وما أكثر هذه الجدران!) إلى المنع الدائم الذي تفرضه سلطتا وزارتي الداخلية والدفاع عبر توزّع عناصرهما في الشارع. يأتي ذلك بالإضافة إلى أن السلطة سارعت إلى الاستعانة برسامين دفعت لهم الأموال من أجل "تجميل" الجدران الكونكريتية التي أغلقت الشوارع، وفرضت عليهم رسم لوحات جمالية لمناظر طبيعية في بغداد للحدّ من بشاعتها.. علاوة على احتكار الفصائل المسلّحة للمساحات الأخرى المتبقيّة في المناطق الحضرية للترويج لأفكارها ورموزها، مستمدّة مشروعية ذلك من سلطة الدين نفسها.
الديمقراطية ليست أصواتاً توضع في صناديق الاقتراع، بل التمكن من التفاعل في الحيز العام لبلورة اتجاهات وتحويلها الى برامج عمل. وفي المحصّلة، ومع القضاء على عدّة محاولات لشبّان حاولوا التظاهر بطرق سلميّة في بغداد والمحافظات الأخرى، ولاسيما عام 2011، ومع التوسع في استخدام الاعتقال العشوائي، لا يبدو مستغرباً أن تُعيد السلطة إنتاج نفسها بعد كل انتخابات، وأن يستمر العراق مصنَّفا على أنّه "دولة فاشلة".


وسوم: العدد 149

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...