أهوار العراق: اغتيال الحياة

لا يمرّ أُسبوع من دون أن تتنافس صور الأهوار مع صور القتل اليومي في العراق. تظهر تربتها الواقعة في جنوب العراق متشقّقة، وتمخر زوارقها الصغيرة عباب اليابسة، وتطفو الأسماك النافقة على الأرض العطشى، وتكاد سماؤها تخلو من الطيور، حتّى غدت يباباً، تُقتل فيها الطبيعة ويهجّر سكّانها كما يُقتل البشر في مُدنٍ عراقيّة أُخرى ويهجّرون بفعل "داعش"، التنظيم المتوحش. الأهوار هي المسطحات
2015-07-23

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك

لا يمرّ أُسبوع من دون أن تتنافس صور الأهوار مع صور القتل اليومي في العراق. تظهر تربتها الواقعة في جنوب العراق متشقّقة، وتمخر زوارقها الصغيرة عباب اليابسة، وتطفو الأسماك النافقة على الأرض العطشى، وتكاد سماؤها تخلو من الطيور، حتّى غدت يباباً، تُقتل فيها الطبيعة ويهجّر سكّانها كما يُقتل البشر في مُدنٍ عراقيّة أُخرى ويهجّرون بفعل "داعش"، التنظيم المتوحش.
الأهوار هي المسطحات المائية التي تغطي الأراضي المنخفضة في جنوب العراق وتتوزع على ثلاث محافظات: البصرة وميسان وذي قار، في مثلث تقع مدن العمارة والناصرية والبصرة على رؤوسه. يعيش سكّانها في بيوت من قصب البردي (الجبايش) الذي ينبت هناك حتى يشكل غابات، ويتنقّلون بالزوارق الرفيعة الطويلة (المشاحيف). وهم من فئتين، العشائر والمعدان، الاُولى زراع والأخرى مربّو جواميس. وهي محطة لهجرة الطيور الآتية من أقصى أصقاع الدنيا، ذهاباً وإياباً حسب المواسم، واستيطاناً كذلك، وتتكاثر فيها أفضل أنواع الأسماك النهرية في العراق، وتُعدّ جنّة للجواميس والأبقار. وجود الأهوار في العراق قديمٌ قدم الوجود البشري على الأرض وهناك إشارات عليه في الحضارتين السومرية والبابلية. وأما جلجامش، فقد استقل في رحلة بحثه عن الخلود، قارباً من قصب وخاض فيه في مياه الأهوار، وهو نفسه نموذج القارب الذي ما زال يستخدم حتّى اليوم في المنطقة.

آخر الأرض

لن تبدو رحلة الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فاليه في القرن السادس عشر إلى الأهوار مشابهة لرحلة جلجامش، إذ حملت معها جانباً استشراقياً. استلقى ديلا فاليه ليلة واحدة على مقربة من سكّان الأهوار وظلّ بعيداً عنهم خشية أن يتعرّضوا له. ورغم شكواه من الحشرات التي تطير في الأجواء، إلا أنه كان مستمتعاً بالمنظر البهيج للمكان، ونقل في مذكراته أنّه أخذ بعض الأختام وقطعاً رخامية مكتوب عليها بالمسمارية لفظها الماء. نظرة ديلا فاليه الاستشراقية التي لم تُعَر للسكان اهتماماً يُذكر، ستبدو أقلّ وطأة فيما بعد، إذ صار يتوافد على المنطقة رحالة شتّى في خمسينيات القرن المنصرم، فقد حظي كافن يونغ، والذي يُعَدّ كتابه "العودة إلى الأهوار" أحد أهم المصادر عن تلك الرقعة العراقية، بالترحيب من السكّان، وارتبط معهم بعلاقات وديّة، الأمر الذي حثّه للعودة مجدداً إلى المسطحات التي سمّاها "آخر الأرض" في مطالع السبعينيات أيضاً. إلا أنّه لاحظ تغيّراً طرأ عليها، بسبب سقوط النظام الملكي المشجّع للإقطاع وحلول النظام الجمهوري محلّه، تمثّل بمصادرة سلطة الإقطاعيين على الأراضي التي تزرع بالرز والقمح، وتوزيعها على الفقراء (وزّعت الحكومة أراضي على المزارعين من 3 إلى 8 دونمات لكلّ عائلة)، وازدياد نسبة السكّان بطبيعة الحال، وذهاب نحو 150 طفلاً إلى مدرسة افتتحت مؤخراً، وافتتاح مستشفى بالقرب من الأهوار، ومعامل للورق على حدودها.. إلا أن مظاهر الرفاه، مثل الزوارق المصنوعة بعناية من أخشاب فاخرة اختفت، لأن أحدّاً لم يعد قادراً على دفع ثمنها، وهذا ما أزعج يونغ. ليس هذا فحسب، إذ أنه كان قلقاً من اختفاء الأهوار تماماً بسبب الحرب العراقية – الإيرانية، ومشاريع السدود التي شرع نظام صدّام حسين بإقامتها على نهري الفرات ودجلة وهما اللذان يغذّيان الأهوار بالإضافة إلى نهر الكارون ذي المنبع الإيراني. وعلى الرغم من كل ذلك، من القذائف التي طالتها خلال الحرب التي استمرّت لثمانية أعوام، ومن بناء سدود جديدة، ومن هجرة الكثير من عائلاتها إلى المدن العراقيّة، إلا أن الأهوار حافظت على بقائها، رغم تقلّص مساحتها.

زنج وشيعة وشيوعيون

مثّلت الأهوار ملتجئاً للمنفيين على مدّى قرون، إذ فرّ بعض ثوّار الزنج في العصر العباسي من البصرة إلى أهوارها، لامتناع الوصول إليهم بسبب بيئتها الصعبة، فضلاً عن تكتّم أهلها على الغرباء، الأمر الذي دفع إلى التفكير بتجفيفها آنذاك، لكن المهمة فشلت. وعادت أفكار تجفيفها منذ مطلع القرن العشرين على يد الإنجليز، في تجاهل أو جهل لأهميتها في توازن النظام الإيكولوجي على الأرض كلها، وأهميتها في منظومة مكافحة ملوحة التربة التي بناها السومريون. ثم حمل التاريخ السياسي الحديث للعراق مبررات اضافية لاندفاع الأنظمة الحاكمة إلى الرغبة في القضاء عليها، إذ قررت مجموعة من الشيوعيين بدء انتفاضة انطلاقاً منها (1968، في زمن عبد الرحمن عارف)، باعتبارها "بؤرة" صالحة للعصيان. وفي 1991، وبعد فشل "الانتفاضة الشعبانية" التي اندلعت إثر هزيمة الجيش العراقي على يد التحالف الدولي بعد حرب "تحرير الكويت"، (بدأت في الجنوب وفي صفوف الجيش المتراجع إلى البصرة ثم طالت 15 من أصل 18 محافظة في العراق. وقد سمحت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لصدام حسين بقمعها بقسوة مرعبة: 300 ألف ضحية على ما يُقال)، بدأت المعارضة الإسلامية الشيعية العراقيّة التي استوطنت قياداتها في إيران، عملياتها ضد النظام من الأهوار، الأمر الذي سرّع في مشاريع تجفيفها، للحدّ من العصيان فيها ومن الدخول والخروج عبرها إلى الأراضي العراقية، فضلاً عن معاقبة السكّان المحليين. وهؤلاء، "المعدان"، حار المؤرخون في تصنيفهم، إلا أن أكثر الأبحاث جدية تشير إلى ارتباطهم الوثيق بعادات السومريين والبابلين، ناهيك عن احتفاظهم بالعديد من الكلمات التي تسرّبت إليهم وما زالت في الاستخدام بعد 5 آلاف عام من اندثار تلك الحضارات، ومنها اسمهم، الأمر الذي جعلهم يصنفونهم كالسكّان الأصليين للبلاد.
والحال هذا، فإن خوف الرحّالة البريطاني يونغ تحقّق تماماً في تسعينيات القرن الماضي، إذ تقّلصت مساحة الأهوار التي كانت تغطي 40 ألف كيلومتر مربع في أيام الفيض الى 4" من هذه المساحة العام 2003. ونتج ذلك عن بناء السدود على الأنهر الواصلة إلى الأهوار، بالإضافة إلى طرق التجفيف البدائية عبر السيارات الحوضية لشفط المياه. وخلّفت هذه السياسة موجة هجرة كبيرة لم تشهد لها الأهوار مثيلاً من قبل، تمثّلت بترك نحو 300 ألف من الأهالي لأرض أجدادهم، وهو ما يشكّل نحو ثلثي السكّان آنذاك – وفقاً لوزارة التخطيط. وبالطبع كان لذلك أثره على انعدام الزراعة في المنطقة بشكل كامل، بعد أن قالت الأمم المتحدة إن الأهوار "تحوّلت إلى صحراء". وعلاوة على الزرَّاع، طالت الكارثة المعدان مربي الجواميس التي تعيش بالقرب من الماء، ويعتمدون في معيشتهم على بيع الحليب والألبان واللحوم بالإضافة إلى القصب الذي ينمو بشكل طبيعي في مياه الأهوار.
وبالرغم من كل هذه المآسي، فإن سياسة البعث القمعية لاحقت سكّان الأهوار إلى أماكن نزوحهم. حينها، أسست السلطة الخارجة توّاً من انكسارات حرب الخليج، نمطاً جديداً لتصنيف العراقيين، وكانوا هم أوّل ضحاياه، عبر بث مسلسلات ومسرحيات تُشير إلى أنّهم متخلّفون، وبُلَهاء ومقرفون.. وهكذا تحوّلت جملة "قادم من الهور"، كمرادف للتخلّف، أما "المعيدي" فهو الشخص الأخرق، الذي لا يجب أن يُعار له بال، بل يكون موضعاً للسخريّة والتحقير.

سطوة التاريخ وانحسار الجغرافية

مثلت الأهوار إحدى أكبر السرديات عن القمع، لدى الأحزاب المعارضة لصدّام حسين، وتحقير السلطة الديكتاتورية للإنسان والطبيعة في آن واحد، وكان من النادر أن يمرّ حوار لإحدى شخصيّات المعارضة من دون أن يُذكِّر بمأساة أهالي الهور. وهذا ما فرض، بعد سقوط نظام صدّام حسين في نيسان/ ابريل 2003، أن ينتبه إلى الأهوار مجدداً، بغاية أن تُعاد الحياة إليها بعدما أعدمتها "السلطة الجائرة". وقدّ تمّ جزء من ذلك بالفعل، ولكن كيف؟
أناطت الحكومات المتعاقبة منذ 2003 إعادة الحياة إلى الأهوار بوزارات عدّة، وانشأت أيضاً وزارة الدولة لشؤون الأهوار، ومركز "إعادة إحياء الأهوار العراقيّة"، وبهذا الحجم من المؤسسات، وبإشراف الأمم المتحدة، أعيد نحو 38 في المئة من مساحة الأهوار حتّى العام 2008، إلا أن ما شخّصته الأمم المتحدة هو الفوضى وتضارب العلاقة والصلاحيات بين كل هذه المؤسسات، ناهيك عن غياب استراتيجية واضحة، وقاعدة بيانات محدّدة تخصّ الأهوار لإعادتها إلى الوضع الذي كانت عليه في السبعينيات.
وهكذا، لم يُدم الإنجاز المتحقق طويلاً. ففي العام 2009، قال ديفيد شيرر، نائب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، إن "سكان الأهوار هم من أفقر الناس وأقلهم استفادة من الخدمات الأساسية". وما شخّصه شيرر يقف خلفه سببان رئيسيان، لكنّهما يصبّان أيضاً عند فشل الحكومة العراقيّة في إدارة شؤون البلاد، الأوّل هو خارجي، إذ بنت تركيا 22 سدّاً و19 محطّة كهربائية على نهر الفرات (بدأت هذه بمشروع الغاب العام 1983)، الأمر الذي قلّل من منسوب مياه النهر داخل العراق. بدورها، قامت سوريا ببناء 5 سدود، وإيران بإنشاء سدود على نهر الكارون.. وكل هذا يجري من دون أن يكون للعراق حتى الآن اتفاقية مائية مع هذه الدول، تحفظ حقوق العراق المائية وفقاً للاتفاقات الدولية، الأمر الذي دفع بكل من تركيا وسورية إلى التجاوز على حصّة العراق المائية.
أما السبب الثاني، فهو الفساد. إذ تخصص الحكومة العراقيّة منذ العام 2006 وحتّى اليوم 50 مليون دولار لمشاريع إعادة إحياء الأهوار، إلا أن كل ذلك يذهب هباء، حيث انخفضت أعداد الجواميس في الأهوار من 80 ألف رأس إلى 5 آلاف فقط، ولا تصل الخدمات الصحيّة إلى نحو 91 في المئة من قراه، وتتخلص الحكومات المحليّة في البصرة وذي قار وميسان والنجف من مياه الصرف الصحي في مياه الأهوار، وهناك 28 نوعاً من الأسماك والحشرات والطيور النادرة مهدّدة بالانقراض، وهناك أيضاً أنواع من النباتات النادرة مهدّدة، إلا أنه لا وجود لإحصائية بشأنها.
ويطال سوء التغذية في الأهوار نحو 31 في المئة من السكان، ونحو 34 في المئة من نساء الأهوار أميات، وتبدو نسبة الالتحاق بالمدارس قليلة إذ تقدّر بنحو 30 في المئة، وهناك 798 موقعاً أثرياً في الأهوار يعود إلى الحضارات السومرية والبابلية والأكادية، لم يتمّ التنقيب فيها حتّى الآن. ووفقاً للأمم المتحدة، فإنه من الممكن أن تختفي تقاليد سكّان الأهوار بعد جيل واحد من الآن، إذ اقتصر الاحتفاظ بها وممارستها على 7 قرى من أصل نحو 267 قرية.. وإذا كان هذا هو وضع السكّان، فإنّه بالتأكيد لن تكون الأهوار "قبلة السيّاح"، كما تروّج الدعايات الرسمية.. ولن تدخل قائمة التراث العالمي لليونسكو، طالما أنها تعيش في هذا البؤس بل والتهديد بالمحو من على وجه البسيطة.

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...