أشدّ المتفائلين في عراق اليوم لا يمكنه إلا القول بأن حاضر البلاد بات قاتماً، أما مستقبله فهو متروك لمجهولات. وبين الزمنين، تحاول الأحزاب السياسية التي حكمت العراق، منذ احتلاله في نيسان / أبريل عام 2003 وحتّى الآن، التخلص من مسؤوليتها في إحلال الكوارث السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي توالت على البلاد، وذلك بخلق الذرائع والحجج أمام العراقيين تبريراً للحال السديمي الذي بلغته. وتبدو هذه الذرائع قد نجحت في إقناع العراقيين بعدم مساءلة السياسيين، إلا أنها في الوقت ذاته دفعتهم إلى الانزواء داخل علب هوياتهم الفرعيّة، تاركين هويّتهم الوطنية الجامعة تنحسر يوماً بعد آخر.
لكن من هم "العراقيون" أساساً؟ هل هم فئة واحدة، جسداً واحداً؟ من يتحكّم بحياتهم السياسية ويتخذ القرار بدلاً عنهم؟ ما فئاتهم الاجتماعية اليوم، بعد عقود من الحروب والخراب والاحتلال؟ كيّف تُسيَّر شؤونهم؟ أين أموالهم التي تكدست في خزائن "دولتهم" عند ارتفاع أسعار النفط، كون بلادهم تعتمد كليّاً على الريع النفطي؟ وما الذي حصلوا عليه من خلالها؟
أسئلة الحرمان
في عام 2011، نشرت وزارة التخطيط العراقيّة تقرير "خارطة الحرمان في العراق" الذي يعيِّن فئات العراقيين وتقسيماتهم، ويمكن من خلاله التعرف على المستفيدين من الأموال التي يدرّها النفط، وعلى الذين يساعدون - بوعي أو من دونه - في تدعيم سلطة المال تلك، وعلى الآخرين الذين يئنّون تحت سياط الجوع.
يقسم التقرير المجتمع العراقي إلى فئات أربع متفاوتة. وبالرغم من أنه لا يُحلّل السياسات التي أدّت إلى هذا التوزيع للفئات، ولا يُشير إلى مداخيلها بشكل واضح، إلا أنه يلمِّح إلى أنه اعتمد على مقاييس الخدمات والبنى التحتيّة ومستوى التعليم. وبالاستناد الى الإحصائيات الأخرى الصادرة عن الحكومة أو اللجان البرلمانية، وعلى الإحصائيات الدوليّة، فضلاً عن التماس اليومي مع الحياة وملاحظة حيثياتها، يمكن التوصّل إلى نتائج عدّة، جميعها تصيب حقيقة واحدة: العراق يعيش عصر اللصوصية والتخادم.
"تجمع الكبار"
منتصف شهر رمضان الفائت، نشر أبو رحاب، صهر رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي، وهو نائب في البرلمان العراقي عن محافظة كربلاء، صورة على فيسبوك تضمه إلى جانب المالكي واثنين من المقاولين الذين استولوا (بدعم من المالكي وحزب الدعوة) على معظم العقود الحكومية (والصفقات الوهمية) المتعلقة بتجهيز المواد لإعادة بناء البنى التحتيّة الخربة. وكتب تحت الصورة معلّقاً أنها "تجمع الكبار". هذه الصورة، وما شاكلها، تقدم الفئة الأولى من ذلك التقرير، التي تقدر بنحو 2 في المئة من جميع سكّان العراق (عددهم نحو 33 مليون نسمة)، وهؤلاء يصنَّفون بأنّهم "الأفضل حالاً"، إذ تتوفّر لهم الخدمات الأساسية من بُنى تحتيّة، كهرباء ومستشفيات، وتتوفّر لهم أيضاً مدارس وبيئة حضرية. هذا على صعيد التصنيف المعلن. هؤلاء في حقيقة الأمر هم السياسيون القابضون على منافذ القرار في مفاصل الدولة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويدخل في فئتهم رأسماليون طفيليون وُلدوا من رحم علاقة التخادم مع أحزاب السلطة، ويضاف إليهم رجال دين متنفِّذون، يشكلون الضلع الثالث في مثلث الهيمنة على ثروات البلاد، مرسِّخين ظاهرة الفساد عبر إصدار خطب وفتاوى تغطي على حزمة مشاريع وهمية بلغت نحو 9 آلاف مشروع منذ عام 2006 وحتّى عام 2015، خصص لها نحو 230 مليار دولار، لم ترَ النور على أرض الواقع، على الرغم من السلف المالية الكبيرة التي دفعت لها، في حين أن المشاريع الحقيقية التي أُنجزت خلال الفترة نفسها تقتصر على حوالي 500 مشروع!
وليس مستغرباً، والحال هذه، أن يتصدر العراق قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم منذ أكثر من 5 أعوام على التوالي، وأن تتصاعد حالات الأمية والفقر لتصل إلى مستويات لا تنافسه فيها سوى دول أفريقيا الأكثر فقراً.
ولكن الأكثر غرابة هو كيفية استيلاد فئات اجتماعية لتشكّل حائط صد وحماية لهذا الواقع. وهؤلاء يتمثلون بالفئة الثانية في التقرير، والتي تشكّل 20 في المئة من المجتمع. يَفترض التقرير أن هذه الفئة تُمثِّل ــ أو تقترب من تمثيل ــ الطبقة الوسطى في العراق، وهي في معيشتها تحصل على الخدمات وتعيش في شبه رخاء متفاوت المستوى. لكنها في الواقع، لا تبدو مستقلّة سياسياً عن الفئة الاولى، إذ انّها نشأت بفعل العلاقة الزبائنية مع سلطة الأحزاب. غالبيّة هذه الفئة عمادها الموظفون في القطاعين المدني والعسكري (يبلغ عدد الموظفين في القطاع الحكومي حوالي 6 ملايين شخص)، وهي الفئة "المطمئنة"، التي تحصل على مرتباتها شهريّاً من دون تقديم أي عمل يُذكر (يقدر متوسط وقت عملهم الفعلي بـ10 دقائق يومياً، هذا بالنسبة الى من يداوم اصلا منهم). بالإضافة إلى أنها تتقدّم على باقي فئات المجتمع من حيث التعامل الحكومي، إذ تحصل على القروض والسلف من مصارف البلاد من خلال درجتها الوظيفية، وتكفلها مؤسسات السلطة.
ناس فوق.. ناس تحت
الفئة الثالثة هي الأوسع، تضمّ 50 في المئة من العراقيين، وهذه تعيش "كفاف يومها"، غالبيتها من العمّال المياومين أو الذين يديرون أعمالاً صغيرة، محال وسائقي تاكسي وما شابه من مهن، وهي مرتبطة بشكلٍّ رئيس في معيشتها بالفئة الثّانية صاحبة المداخيل الثابتة. والكثير من المنضوين في هذه الفئة يطمحون بشكل حثيث، ومن خلال انخراط أبنائهم في التعليم، للانتقال الى الفئة الثانيّة. وتعمل السلطة فعليّاً على رفع عدد منهم عبر العلاقة الزبائنية ذاتها، إلا أنّ هذا يصطدم بحدود معلومة، إذ لا يمكن للحكومات تحمّل أعباء تزايد أعداد الموظفين، خاصّة أن 70 في المئة من الحاليين فائضون عن الحاجة الفعليّة للعمل.
وبالرغم من الكفاف اليومي، وسوء الخدمات الذي تعيش وسطه هذه الفئة، إلا أنها ترضخ لسلطة الخطاب الديني الذي يبثه ذلك الضلع الثالث من الفئة الأولى. وهي تجاور الفئة الرابعة المسحوقة التي تشكّل 28 في المئة من العراقيين، وتعيش في فقر مدقع في مناطق بلا خدمات أو مياه أو منظومة صرف صحي، فضلاً عن غياب المدارس.
ولكن الأسى الذي يحيط بأغلب العراقيين، أي أبناء الفئتين الثالثة والرابعة، لا يدفعهم الى الاشتباك مع الفئات المُسيطرة على المال، ومع تلك المتعاونة معها. يلعب الخطاب الديني الذي تصاعد طيلة عقد ونيّف، يحمله ويسوقه رجال دين من الطائفتين، السنيّة والشيعيّة، دوراً كبيراً في تأطير الناس وفي تسيير قنوات رضاهم واقتناعهم. فعبر آليات "العمليّة السياسية"، يتم توزيع المسؤوليات على المذاهب.. من أجل الحفاظ على السلطة. يندر وجود خطاب صادر من المنابر الدينيّة يشمل الطبقة السياسية بأكملها. يقتصر حديث المُعمَّمين على لوم وزير من هذه الطائفة على حالة الفقر، ووزير من تلك الطائفة على تردّي الخدمات، وهناك وزارات هي عبارة عن كبش فداء، مثل وزارة الكهرباء التي يُتاح للجميع انتقادها، ويبدو وزيرها أصلاً غير مُبالٍ بكلّ الانتقادات والاحتجاجات الموجهة إليه. فكما اليوم، وفي كل صيف عراقيٍّ قائظ، تعمُّ التظاهرات أغلب مُدن العراق (في البصرة منذ ايام قتل متظاهر برصاص قوّات الأمن). يبرّر الوزير بوقاحة أن أزمة الكهرباء ناجمة عن استخدام العراقيين لـ "سخانات" المياه، بينما درجة حرارة الجو تجاوزت 50 درجة، الأمر الذي أثار موجة سخرية عارمة. "صُرف" على الكهرباء في السنوات الـ12 الماضية 40 مليار دولار، ولكنها لا تزال تنقطع لـ12 ساعة في اليوم، وأحيانا بالكامل لأيام متتالية. الوزير في مكتبه، والمتظاهرون ينفجرون ثم ينسحبون من الساحات نتيجة لتهديدهم المستمر من قبل الأحزاب السياسية والميليشيات التابعة لهم أو المتعاونة معهم!
فعليّاً، يُنفّس رجال الدين الغضب عن مريديهم. يعطونهم الحلول الناجعة: الدعاء لله، والابتعاد عن الرذيلة، ومساعدة الفقير حتّى يعمّ الخير على هذه الأرض، وخصوصاً توجيه الملامة على الآخر: فئة مذهبية تقول عن الاخرى انها مستقوية جشعة تبتلع كل شيء، وأخرى تظن مثلاً أنه لولا "داعش" واستنزاف المعارك معه، لتوفر مال لكل شيء. ولا يتكاثر شيء قدر تكاثر المساجد والحسينيات في كل حي ودسكرة. هكذا يختفي العراقيون كمواطنين، ويتم تقسيمهم على طوائف وقوميات متنازعة.
والإعلام منخرط هو الآخر في هذا الخطاب، فغالبيّة الوسائل الإعلامية تنتمي إلى حزب سياسي أو أسسها ويمولها رجل أعمال له عقود مرتبطة بأحزاب الحكومة، الأمر الذي يجعل خطاباتها انتقائية في تقريع جهة ومديح أخرى، وهي تركل الخيار الوطني الجامع، وتتمسّك بهويّة الطائفة..
أما جمهور العلمانيين فيتلقى خطابا غريبا، مزورا. فقد تواترت من بعض الليبراليين واليساريين الدعوات الى الصبر على التجربة "الديموقراطية"، كونها "فتيّة" وبحاجة إلى وقت لتنضج وتتخّلص من "الشوائب" و "الأخطاء" التي رافقت خطواتها. وهو تواطؤ، مدفوع الثمن في مناصب وامتيازات، أو معبِّر عن عجز وإفلاس، وهو يُغَيِّب حقيقة أن البنية القائمة هي منتج الكارثة لا "الأخطاء" القابلة للإصلاح، بل إن هذه الخطابات لا تختلف في العمق عن أجزاء من خطاب إسلامي بغلاف حداثوي، يستعيد مقولة "لا يجوز الخروج على الحاكم". وقد شكلت هذه الخطابات رافعة لإرساء دعائم الفساد في العراق، ومكنت الأحزاب الحاكمة من التسلّط والنهب المنظم للمال العام، لأنها بررت ولأنها أسقطت الأمل بوجود بدائل.
فئات أم طبقات
إحدى أهم المشكلات في عراق ما بعد 2003 هي غياب دولة جامعة للعراقيين. تمكنت النخب السياسيّة الحاكمة، وهي بمجملها جاءت مع الاحتلال وشكلت غطاء لممارساته، من تأسيس "دولتها" المشتهاة وفقاً لقياساتها التي تفتقر إلى التجربة وتخلو من أي برامج لإدارة الدولة. وكان الشكل اللبناني الغارق في السوء هو النموذج الذي نسجت على منواله. لكن حتّى هذا النموذج الفضفاض سُرعان ما اصطدم بالواقع العراقي المنقسم إلى آخر ما تبقّى من مدنيّة وبدويّة طاغيّة. وبدلاً من ترسيخ المدنية التي تتوافق قيمها ومقولاتها مع الديموقراطية، تمددت عملية ترييف المجتمع بحيث طغت الأعراف العشائرية على القانون السائد وأحيت تقاليد حمل السلاح والدية وفض النزاعات في دواوين العشائر التي باتت بديلاً فعالاً لقاعات المرافعات في المحاكم. لم تفرض المؤسسة العشائرية أعرافها على المجتمع عن طريق القوة، بل جاءت بدفع من النظام السياسي القائم لخلق شكل من علاقة "تطامن" بين المؤسستين العشائرية والسلطوية.
معظم الأحزاب الحاكمة اليوم صعدت إلى سدة الحكم على رافعة "المظلومية"، وخصوصاً مظلومية الشيعة والاكراد. إلا أن الخرائط تؤشر الى أن حجم الفقر في محافظة البصرى "الشيعية"، والتي تعتبر خزان العراق النفطي، لا يختلف من حيث الفقر وفقدان الخدمات عن محافظات أخرى مثل ديالى أو كركوك أو بابل أو المثنى أو نينوى، كما أن نسبة الامية في معظم المحافظات العراقية تكاد تكون متقاربة.
لقد خلقت الاحزاب جميعها، الكردية منها والشيعية والسنية، سُلطة مشوّهة تُمسك بها طبقة من الطفيليين يمتلكون مفاتيح الخزينة العراقية ويتقاسمون المنفعة. إنها اللصوصية.
يجري تغييب المجتمع تحت مظلة الخطابات الدينية الطائفيّة، بينما "طبقيّة" مبتذلة تقوم على نهب المال العام هي أبرز ملامح العراق "الجديد". إلا أن هذا الخطاب لا يبدو أنه يستطيع الاستمرار بالتأثير بوجود الأزمة الماليّة التي تضرب العراق، والتي تترافق مع انعدام الخدمات الأساسية (الكهرباء والتعليم والصحة). كان أحّد أبرز الشعارات التي رفعت في تظاهرة وسط بغداد في 31 تموز/ يوليو منذ أيام، هو "باسم الدين باكَونا (سرقونا) الحرامية". وقد تكون هذه التظاهرات والشعارات التي بدأت تعم أغلب مدن العراق مفتاحاً جديداً لصياغة علاقة العراقيين مع السلطة التي تحكم بلادهم في الزمن القادم.