لسنا بصدد تذكّر استعادي لهزيمة 1967 التي حَسمت الأيام الجدل حول ما إذا كانت مجرد "نكسة" سيتم تجاوزها. مذاك، عشنا تدهورا لم يتوقف أبداً. وقد وُظِّفت حرب 1973 والتمكن من "العبور" لعقد اتفاقية كامب دافيد 1978، وقبلها بعام ليزور السادات القدس ويخطب أمام الكنيست، وهما ما جسد التخلي الرمزي والعملي عما كان الجواب المتولد حيال نكبة 1948، ما أدى الى الإخلال العميق بالبنية السياسية والعسكرية والفكرية والثقافية للمنطقة، الذي دفعنا أثمانه وما زلنا حتى اليوم. وقد تكشفت وقائع تلك الأحداث عن مفاوضات سرية بين مصر وإسرائيل، لم تكن "منفردة" كما يُزعم بنفاق، بل واكبتها بصورة مستمرة السعودية ورعاها مباشرة ملك المغرب آنذاك.
وبخروج مصر الطوعي مما كان إطارا عربيا للوجود، وهي البلد الأكبر والأكثر رسوخا واستقراراً، وكذلك والأهم، البلد الذي قاد ذاك الجواب على النكبة.. فُتح المجال أمام الاضمحلال المضطرد لوزن ذلك الإطار وتحوّله إلى رابط شكلي يمكن الاستغناء عنه، بل والى انحطاط كاريكاتوري في هيئته الرسمية، أي الجامعة العربية، كما شهدنا في السنوات الأخيرة. الاستهوان جعل بإمكان من يطمح بالسطوة على المنطقة أو على أجزاء منها أن يفعل، فترانا اليوم متنازعين بين مشروعين امبراطوريين يحيطان بنا، وترانا اليوم استُبحنا من الاميركان لدرجة احتلالهم العراق بأمه وأبيه، هذا عدا المفوضين السامين هنا وهناك.
لم يكن الخيار السياسي ذاك الذي أعقب هزيمة 1967 معزولاً، يتعلق فحسب بالنظرة إلى الصراع مع إسرائيل والمسألة الفلسطينية، بل مَثّل نهجاً متكاملاً جرى التعبير عنه في "الانفتاح" الاقتصادي الذي دعا اليه وتبناه وطبّقه السادات ثم الذين خلفوه حتى اليوم: تخلٍ عن كل طموح بتحقيق شيء من العدالة الاجتماعية، ونكوص عن التعليم والطبابة العامين، والإصلاح الزراعي، وتخلٍ عن خطط التقدم في الإنتاج والاكتفاء الغذائي وبناء المؤسسات.. على كل ما كان في هذا الطور من المشروع النهضوي من عيوب كبرى وخطيرة، أدت أصلا إلى التمكن من هزيمته بيسر.
وهكذا شاع رويدا بؤس متعاظم لا يبدو اليوم أن له قرارا. ويأس مكين. وانفجرت بلا خجل حروب عربية بينية وأخرى أهلية. وترافق كل ذلك مع سطوة الأفكار الأكثر رجعية وانحطاطاً.
.. بالتأكيد لم يهبط داعش وأقرانه من الفضاء.