سأترك التحليل السياسي لمعنى ودلالات أن يُعتقل الباحث الأكاديمي والكاتب والصحافي الاستقصائي إسماعيل الاسكندراني وهو عائد إلى بلده. أتركه لسواي ممن يجيده تماماً، أو لمرة ثانية. وسأقدِّم الإنسان الذي صادف إني تعرفت عليه شخصيا وعملت معه.
ليس الشاب من النوع الصاخب الاستعراضي، لكن هدوءه لا يتمكن من التمويه على جذوات نفسه المتقدة: انحيازه العنيد للمضطهدين والمظلومين والبائسين والاستفزاز الذي يشعر به حيال أوضاعهم، وشجاعته في اتخاذ الموقف الملائم وفي القيام بما يلزم لخدمة هذا الموقف (مهما كانت المشاق والمخاطر)، وتطلبه الصارم الذي يدفعه للتدقيق والبحث وفحص الوقائع والمعطيات، وصدقه في ما يتبنى، وامتلاكه لعقل نقدي يجعله يُساءِل الأشياء والأفكار ويمنحه القدرة على التطور.. وعلى هذا، ثقافة وإتقان وشعور بالمسئولية ووفاء وشهامة وترفّع واعتزاز بالنفس و.. رقّة لم يكن يخجل أبداً من الاعتراف بها. ولولا الخشية من الإطالة لأعطيتُ مثلا عن موقف اتخذه أو كلمة قالها توضِّح كل صفة من تلك الصفات، وتنزع عنها ما يبدو وكأنه مجرد مديح يقال بمناسبة محنة أي كان. وإسماعيل، على صغر سنه، ناضج بشكل مدهش. وهو بالخلاصة إنسان متطابق مع نفسه.
ليس مصادفة أن يهتدي إسماعيل إلى "السفير العربي" بُعيد صدوره وينشر فيه أول نصوصه مطلع أيلول/سبتمبر 2013. ومذاك لم يتوقف. وكان، حين يشتد به الضيق، يبوح معتذرا عن ظروفه، وقد خاطبني أكثر من مرة ب "يا أمي" (أمد الله بعمر والدته الذي كان مشغولا بصحتها، والأرجح أنه عاد من رحلته الأكاديمية للقائها رغم معرفته بأن مزيجاً من الغباء والعنجهية يتربص به).. إسماعيل يشبه "السفير العربي" بتكوينه ووظيفته وبكتابه وكاتباته الشباب (الذين يفوق عددهم المئة والخمسين، 70 في المئة منهم دون الثلاثين.. أتنبه الآن إلى أنهم يكبرون بمرور السنين، فلعلي ابدأ بالقول "في الثلاثين وما دون")، التقوا على صفحاته وصار كثير منهم أصدقاء. شبكة تلف العالم العربي منسوجة من الذكاء والصدق والرغبة العنيدة بتغيير الأوضاع البائسة وإزاحة الخراب.. والمهم: من الإيمان بإمكان ذلك ومن العمل له. مجد كيال في فلسطين، اعتقله الإسرائيليون ولم يتوقف عن الإبداع والنضال قبل وبعد وفي الأثناء! ماجد المذحجي في اليمن تلاحقه أحقاد من ينتقدهم فيُخطف ثم يطلق، فارع المسلمي في اليمن يتعرض للطرد من البحرين (!)، عمر الجفال في العراق الذي تقع قلوبنا خوفا عليه كلما عرفنا بتفجير في الشوارع التي لا يغادرها باحثا ومتظاهراً، سعيد الهاشمي من عُمان الذي كتب مذكراته الرقيقة من داخل السجن ونشرها حين خرج.. وغيرهم. وكذلك هي أحوال "الآباء" من كتابنا، الذين بقوا شباباً بفضل مواقفهم وقناعاتهم ومساهماتهم الإبداعية وذكائهم المتقد، وذاك التطابق مع النفس..
.. هكذا ألحت عليّ تلك الجملة المُجيبة عن أقرب الأبناء إلى القلب: "الصغير حتى يكبر والمريض حتى يشفى والمسافر حتى يعود".. والمعتقل حتى يُطلق!