تفاجأ فلاحو حزام نينوى، بينما هم يفكرون بالجفاف الضارب بقسوة أراضيهم، بقرار وزارة الزراعة حجب سماد محدد عنهم. لم يتوقع ذلك هؤلاء النازحين العائدين بعد أربعة أعوام من احتلال داعش لحقولهم. يعود سبب القرار الى خشية الحكومة من استعمال اليوريا في صناعة المتفجرات، وهو ما جرى سابقاً. بدون هذا السماد، ومع شحة المياه اللازمة للري، ستكون نتائج زراعتهم نصف المتوقع إن لم يكن اقل.
مشروع ري الجزيرة في نينوى، التي تنتج عُشر محصول الحنطة في العراق، متوقف. المشروع الإروائي الذي يفترض به أن يحيي 250 ألف دونم هناك، بدأ في حقبة صدام حسين. ونتيجة للأحداث السياسية والعسكرية، تراجع تنفيذه ليعود في عام 2008 كمقترح. لكنه عاد للأدراج مجدداً بعد اعتراض محافظات جنوبية تخشى من تأثيره على حصصها المائية. اليوم ومع انخفاض مستوى المياه في بحيرة سد الموصل (انشأ السد في 1986 ورافقته مشكلات ــ وإشاعات ــ تتعلف بمتانة بنائه، إلا أن الإنخفاض سببه حجز تركيا ل 25 في المئة من مياه نهر دجلة الجارية، ما يعني ان السد سيُخرج كميات من المياه اكثر مما يَدخل إلى البحيرة الخزنية التي تغذّي المشروع، وقد وصل ما فيها إلى نحو مليار ونصف مليار متر مكعب (من أصل أكثر من 4 مليار سابقاً). وهكذا بات ري الجزيرةمتعذراً.
.. وكأنه لا يكفي
بالتزامن مع هذه الفجائع البيئية، ظهرت حكومة بغداد في اجتماع تنسيقي مع مؤسسة "تحدي الالفية" (Millenium Challenge Corporation ) التي اسسها الكونغرس الامريكي في 2004 لتكون "أداة للتنمية" عبر العالم (وهي تنشط كثيراً في المنطقة، ولديها اتفاقات مع المغرب وتونس والاردن.. ومهتمة بشكل خاص بالزراعة). اللقاء الرسمي الذي عقد مطلع شهر أيلول /سبتمبر الجاري، وتمّ نشر خلاصاته في الاعلام كان مضحكاً مبكياً، إذ كان الاتفاق مع المؤسسة الامريكية "تحدي الالفية" يتمحور حول نقطة واحدة فقط، هي إطلاق تطبيق الكتروني على هواتف المزارعين العراقيين "الذكية" لتعليمهم الزراعة! في وقت يجد هؤلاء المزارعون المفلسون صعوبة في تشغيل مولدات الكهرباء الخاصة بهم لضخ مياه الآبار التي حفروها بيأس الى الحقول المجدبة، علما ان هؤلاء ينتمون الى سلالات تمتهن الزراعة منذ ثلاثة آلاف عام أو أكثر.
مياه العراق: موسم الهجرة إلى الكارثة
04-06-2018
منتصف هذا العام، ومع الضجة التي صاحبت بدء انقرة في ملء سد إليسو العملاق، قررت وزارة الزراعة العراقية حظر زراعة الأرزّ والذرة الصفراء والبيضاء والسمسم والقطن والدخن وزهرة الشمس والماش. هذه المحاصيل الصيفية ليست الأخيرة في قائمة الحظر، حيث من المقرر ان تعلن الوزارة عن "الخطة" الشتوية الشهر المقبل. وبحسب واضعي الخطة فإنها ستتوسع في حظر زراعة المحاصيل. وعلى الرغم من تعهد المسؤولين بإيصال الماء الى 600 ألف دونم في كل انحاء البلاد، الا انهم اكدوا استحالة الاستمرار بزارعة الرز الذي يحتاج الى غمر بالماء لستة أشهر في ظل ازمة المياه القائمة.
نزوح أم صدامات؟
أزمة انهيار الزراعة، ربما لا تقود الفلاحين هذه المرة الى الهجرة للمدينة كما حدث في الثلث الأول من القرن الماضي في العراق. الامر مختلف هذه المرة. المزارعون مدججون بالأسلحة وهم يتحصنون كقبائل شرسة ترفض هذا التغيير في الواقع. لديهم ممثلون في السلطة يغطون على تجاوزاتهم على شبكات الري، كما ان المدينة لا تغريهم كثيراً بزحامها الخانق وفرص العمل القليلة فيها. طليعة الفلاحين ممن دخلوا المدن قبل قرن فشلوا في التعايش مع قسوة الحياة على الهامش، وأحفادهم لن يكرروا الخطأ، وهم على استعداد للمواجهة، اذ يتطلب فرض العدالة في توزيع المياه صداماً امنياً وعسكرياً معهم، وهو ما لا تطيقه الدولة أو لا يدخل في إهتماماتها أساساً. غير ان الخشية الاعمق هي اشتعال الصراع الداخلي بين أصحاب الأراضي الزراعية.
ربما لا تقود أزمة انهيار الزراعة الفلاحين هذه المرة الى الهجرة للمدينة كما حدث في الثلث الأول من القرن الماضي في العراق. الامر مختلف اليوم. المزارعون مدججون بالسلاح وهم يتحصنون كقبائل شرسة ترفض هذا التغيير في الواقع. غير ان الخشية الاعمق هي اشتعال الصراع الداخلي بين أصحاب الأراضي الزراعية.
العلاقة المالية بين الحكومة والمزارعين معقدة جداً. تملك الدولة أراض واسعة في كل المحافظات، وهي تقوم بتأجيرها عبر عقود طويلة الأمد. تسديد مبالغ التأجير متراكم لسنوات بسبب فشل مواسم زراعية كثيرة، والحكومة تصر على دفع الأموال المتراكمة في ذمة طبقة المؤجرين الكبار (من ورثة الاقطاعيين)، وهؤلاء أقوياء في مناطقهم وعبر علاقاتهم. من جانب آخر يطالب المزارعون بمستحقاتهم المتأخرة مقابل المحاصيل التي سلموها للحكومة المتقشفة والتي استدانت كثيراً في السنوات الأربع الماضية.
وزارة الموارد المائية، المسؤولة عن ضمان العدالة المائية، أبلغت وزارة الزراعة ان ستمئة ألف دونم هو كل ما يمكن زراعته في العراق حاليا، ثمانمئة ألف دونم باتت محرومة من الماء على أساس هذا القرار، والخسائر تتجاوز الأربعين مليار دينار عراقي. كما ان الثروة الحيوانية متضررة أيضاً: مربو الجاموس في "ذي قار" (مركزها الناصرية) باتوا يلاحقون الأهوار التي لم تجف والتي تحتاجها حيواناتهم للبقاء على قيد الحياة. غير ان حرائق هور الحويزة المستمرة منذ شهر لأسباب مجهولة ترعبهم أيضاً.
النفط خصم جديد للزراعة في العراق، حيث يتم استهلاك حجم ليس باليسير من مياه العراق لحقن الابار النفطية بعد استخراج النفط منها خشية من تخسف الأرض، لكن هذا ليس كل ما في الامر، اذ بات استحواذ الشركات النفطية على الأراضي الزراعية للاستكشاف فيها ازمة مجتمعية تنذر بالصراع. التعويضات التي تمنحها الدولة ذات قيمة منخفضة، انابيب نقل النفط تخترق الحقول وتسبب مشاكل كبيرة، كما أن أصحاب الأراضي يحاولون ابتزاز شركات الاستكشاف والاستخراج الأجنبية باستمرار بعد فشلهم في الحصول على تعويضات نافعة من الحكومة.
وأد من نوع آخر في ريف العراق
02-07-2017
بعض الملاك الكبار للأراضي الزراعية يتحدثون عن أمل. يعتبرون أن هذه الازمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وأن سد إليسو سيمتلئ يوماً ما بعد إيقاف ملئه مؤقتاً حالياً، عندها ستعود حصة العراق المائية الى نسبتها المتفق عليها، كما ان لدى المزارعين بدائل أقل استهلاكا للماء من زراعاتهم المعتادة، كبعض الخضروات التي يعتزمون زراعتها لحين انتهاء الازمة. وبدأت بادية السماوة في أقصى الجنوب بالعمل على ري الحقول بطريقة "حديثة" اعتماداً على وسائل متطورة، وهي تنتج كميات مقبولة من المحاصيل. كما ان هناك توجهاً كبيراً نحو إنشاء احواض تربية الأسماك وحقول تربية الدواجن داخل الحقول الزراعية.. ما يدخل من باب حرف مسار الأزمة بعيداً... ولكن ماذا عن صغار المزارعين؟ وما هي وحهة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية الملازمة لما يجري؟