أن يُقتل الناس تحت قصف تتخذ قرارَ القيام به دولٌ "شرعية" منظورة، يدّعي أغلبها التحضر الشديد، لهو توحش شديد. وأن تمارسه دول ـ يُقال لها أحياناً "سلطات" ازدراءً وشكاً في امتلاكها لصفة الدولة كمؤسسة راسخة مستمرة باستقلال عن طاقم الحكم ـ توحّش هو الآخر (تسهل عادة إدانته، بخلاف التبريرات التي تسود حيال ممارسات الدول "المحترمة"). وأن يَقطع داعش أو سواه الرؤوس ويسبي النساء ويفرض بالقوة نمط تفكيره على الناس، توحشٌ لا شك فيه.
.. فما اسم عدم الاكتراث بما يجري من مآسٍ تطال الناس في صميم حياتهم؟ تركُهم يموتون أو يُذَلُّون بلا مبالاة، مع وجود القدرة على تلافي ذلك، على فرض أن إيقاف الحروب والعدوانات ليس بيد مَنْ يودّون ذلك. حَصل أن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة اضطر مطلع هذا الشهر إلى إعلان توقفه عن توفير الغذاء لمليون وسبعمئة ألف نازح سوري في دول جوار سوريا، لعجزه عن توفير مبلغ 64 مليون دولار تنقصه في الشهر الجاري. الجميع عرف بالخبر، ولكن عالجه إما بشعور عميق بالعجز أو باللامبالاة، واستمر كل واحد في حياته كالمعتاد. ثمة أمثلة أخرى لا تُحصى تُجسِّد شيوع الفردانية الذاتية وتبلّد الإحساس في مجتمعات متصلة بقوة في ما بينها وفي داخل كلٍ منها، عبر الشارع والتلفزيون والوسائط التي وفرها الانترنت. ولكن مثال طعام النازحين قوي لأنه يعبر عن حاجة فورية داهمة تخصّ ضحايا وحشيات أخرى وقعت عليهم هم أنفسهم. ولأنه يتعلق بواقعة متواضعة المدى وقابلة للحل ببساطة. ماذا فعل برنامج الأمم المتحدة ذاك؟ أطلق، على طريقة الجماعات المناضلة، نداء لجمع التبرعات من الناس ("دولار واحد").. استعار أدوات غيره واضطر إلى النزول من علياء الدول والسلطات، ونجح!
العبرة عبر. منها أن المجتمعات والأفراد ينحطّون إلى درك أسفل شنيع من التوحش حين يصدّقون ما يُشاع بقوة (وبوسائل مختلفة حتى صار سائداً مقبولاً)، من أنه لا حاجة لمنظومات قيمية تحدد شروط حياة البشر.. هنا على الأرض وليس في السماء. ومنها أن السخرية ممن يَدْعون الى تغيير الواقع بالموقف وبتكوين قناعات، وبالجهد الإرادي الفردي والجماعي، ليسوا بلهاء أو حالمين، وأنه لا سبيل آخر. حتى لا يكون كل واحد منا وحشاً.. من دون أن يدري!