ظل السودان يعاني من تمرد انطلق في جنوبه منذ قبل استقلال البلاد في العام 1956. وفي نهاية الأمر، توصلت الخرطوم الى اتفاق سلام مع المتمردين الجنوبيين كان من ضمن بنوده ممارسة حق تقرير المصير وخيار أن يبقوا في السودان أو يستقلوا بدولتهم المنفصلة. وفي العام 2011، صوت أبناء جنوب السودان بأغلبية كاسحة لصالح خيار الانفصال. لكن وبعد عامين فقط من الاستقلال، دخلت الدولة الجديدة في حرب أهلية، بدأت صراعاً حول السلطة بين النخب لتنحدر سريعاً الى مستنقع الصراع القبلي الدموي. وعبر السنوات الخمس الماضية، فشلت الوساطات الاقليمية المدعومة دولياً في إحلال السلام.
أثيوبيا المجاورة عانت كثيراً من فساد الحكم ومن الصراعات، خاصة مع أريتريا التي ترى أنه تمّ ضمها الى أثيوبيا بالقوة، ولم تحصل على استقلالها إلا في العام 1993. لكن لم يمضِ وقت طويل حتى دخل البلدان في حرب حدود بينهما استمرت ثلاث سنوات وتسببت بسقوط قرابة 100 ألف قتيل، وبعداء وقطيعة شاملة بين الدولتين لفترة عقدين من الزمن، حتى أصبحت القناعة السائدة أن المخرج لتحقيق وفاق بين البلدين يتمثل في غياب أحد نظاميهما عن المسرح نهائياً.
مفاجأة الاختراقات
ثم جاءت المفاجأة في حدوث اختراقات مهمة، إذ نجح السودان في 25 حزيران/ يونيو الماضي في جمع الفرقاء الرئيسيين في جنوب السودان وإصدار ما عُرف بـ"إعلان الخرطوم" الذي يعيد الحياة للحل السلمي للنزاع من خلال فتح الباب لوقف إطلاق النار ثم إجراء ترتيبات أمنية، الامر الذي هيأ الأجواء لتناول بقية القضايا الشائكة مثل قسمة السلطة والثروة.
وفي أثيوبيا تسارعت الأحداث. رئيس الوزراء الجديد أبي أحمد يعلن عن عزم بلاده الاعتراف باتفاقية الجزائر التي أقرت بحق أريتريا في منطقة "بادمي" المتنازع عليها، وكانت أديس أبابا ترفض ذلك من قبل. ثم زار وفد أريتري بقيادة وزير الخارجية أديس أبابا. وفي خروج ملحوظ على البروتوكول استقبله أبي أحمد في المطار، الذي قام بعد ذلك بزيارة الى العاصمة الأريترية أسمرا، ليعود نظيره الأريتري، أسياس أفورقي، للقيام بزيارة مماثلة في الاسبوع التالي...
هناك أربعة عوامل أساسية أدت الى هذه التحولات: أولها الإرهاق الذي ألمّ باللاعبين الرئيسيين، سواء لجهة طول مدة هذه الصراعات، أو لتراجع مختلف أنواع الدعم الذي تتلقاه الاطراف المختلفة، وتعاظم ثقل المسؤولية تجاه منسوبيها، سواء كانوا مواطنين أو مؤيدين. فجنوب السودان أمضى عامين بعد الاستقلال في مناكفات ومشاكسات مع السودان ومع مختلف القوى السياسية الداخلية، ثم انفجرت الحرب الاهلية المستمرة منذ خمس سنوات. أما النزاع الأثيوبي الأريتري فيقارب عمره ربع قرن من الزمن.
العامل الثاني يتمثل في تحول الموقف الاقليمي والدولي من مساندة الأطراف المختلفة في مواقفها وتوفير شيء من الدعم السياسي والمالي لهذا الطرف أو ذاك، تحقيقاً لمكاسب مباشرة هنا أو هناك، الى الدفع باتجاه تسوية النزاعات بسبب تزايد الانشغالات الداخلية للداعمين الاقليميين والدوليين الذين وجدوا أنه من مصلحتهم تحجيم هذه الصراعات وتقليل آثار انعكاساتها السلبية، من تدفق للاجئين وكلفة اقتصادية، وربما أيضاً حسابات تتعلق بأن فتح الباب أمام سلام يمكن أن يسهم بدوره في تطورات إيجابية لهم.
جنوب السودان: دولة فاشلة أم نهج غربيّ فاشل؟
02-11-2016
فبالنسبة لجنوب السودان، تمثل الدور الإقليمي من خلال "منظمة إيقادIGAD - " والمساندة التي وفرتها لها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. منظمة إيقاد تلك تتكون من دول الجوار في القرن الافريقي. كما تمثلت مساندة الدول الغربية (أو "شركاء إيقاد") في توفير قدر من التمويل لنشاط الوساطة مع دعم سياسي، بل والضغط عبر فرض عقوبات، كما حدث لبعض القادة السياسيين والعسكريين في جانبي الحكومة والمعارضة، أو حظر السلاح. على أن التأثير الأكبر يبقى للسودان، ليس فحسب بسبب كونه الدولة الام التي تملك معرفة وثيقة بمختلف أطراف النزاع، وإنما لأن الخرطوم تملك ورقة الضغط الرئيسية، وهي قدرتها على التأثير القوي على الوضع الاقتصادي في جنوب السودان، الذي يعتمد على عائدات النفط بصورة كلية. فالسودان يملك محطتين للمعالجة الرئيسية في كل من منطقتي "هجليج" و"فلوج" حيث يتم إعداد النفط الخام للتصدير، وكذلك من خلال خطي الأنابيب الشرقي والغربي اللذان ينقلان نفط جنوب السودان الى الأسواق العالمية، علماً أن ليس لجنوب السودان منفذ على البحر. وعلى ذلك كله، تتوفر الكوادر الفنية السودانية التي تتمتع بخبرة حقلية من واقع عملها في هذه المواقع عندما كان السودان دولة واحدة. وبالفعل بدأ البلدان بالعمل سوياً في تنفيذ برنامج إعادة تشغيل بعض الحقول، الأمر الذي سيفيد كلاهما من خلال رسوم العبور التي ستحصل عليها الخرطوم الى جانب تسديد بعض ديون جوبا للسودان، وحصول خزينة جنوب السودان على عائدات إضافية. كما أعلن السودان عن فتح حدوده مع جارته الجنوبية، الأمر الذي يمكن أن يعود عليه بعائدات تقدر بحوالي ملياري دولار، من صادرات غذائية وزراعية. وهذا يمثل العامل الثالث في الموقف الحالي.
تنسيق
يعود أمر هذا الاختراق في جانب أخير منه الى التوقيت، حيث ان عناصر التسويات المقترحة كانت موجودة، بل وجُرِّبت من قبل، لكن طرحها في توقيت مختلف هذه المرة أتى بنتائج مغايرة. ثم هناك التنسيق، بداية بين شركاء "إيقاد" كما يظهر في جولات المفاوضات التي استضافتها العواصم المختلفة، وخاصة بين يوغندا والسودان، بسبب تأثيرهما المباشر والعسكري على أطراف الصراع الرئيسية.
في ملف أثيوبيا وأريتريا، اتضح وجود محاولات مستمرة منذ مدة ليست بالقصيرة، إذ استضافت واشنطن لقاءً العام الماضي بين وفدين، أثيوبي وأريتري، وأسهم في الترتيبات "مجلس الكنائس العالمي" الى جانب الديبلوماسي الامريكي دونالد ياموموتو، الذي سبق له العمل في البلدين من قبل، ويتولى حالياً مسؤولية ملف أفريقيا في وزارة الخارجية. كما هناك حديث عن الدور الذي لعبته السعودية والامارات التي زار ولي عهدها أديس أبابا بمعية مجموعة من رجال الأعمال لتقديم "عون اقتصادي ومالي" لأثيوبيا، فيما يبدو أنه يندرج في إطار هدف أكبر وهو تحقيق قدر من السيطرة على الاوضاع في منطقة القرن الافريقي التي تطل على البحر الأحمر، وتمثل عمقاً استراتيجياً للخليج، حيث تدور على ضفته الأخرى القريبة، حربٌ دموية ومعقدة في اليمن، وحيث يظهر بأن هناك صراعاً دولياً محموماً على النفوذ في هذه المنطقة بالغة الاهمية، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، تشترك فيه أطراف كبرى ليس أقلها الصين نفسها، وإيران، علاوة على السعودية والامارات..
ما اتاح التوافق والسلام في الحالتين هو الإرهاق أولاً، بسبب طول مدة هذه الصراعات، والتغير في مواقف ومصالح القوى الدولية والاقليمية ثانياً، التي كانت تشجع أو تمول مختلف الأطراف، ووفرة فرص الاستفادة الاقتصادية المتبادلة التي يتيحها التعاون بدل القطيعة، وأخيرا التوقيت: إنها اللحظة المناسبة.
كلٌ من أثيوبيا وأريتريا موعودتان بتذوق ثمرات السلام من خلال فتح الموانئ الاريترية أمام دولة أثيوبيا التي لا تملك منفذاً على البحر، والسماح لأريتريا باستغلال مناجمها من البوتاس على الحدود، المُعطّلة بسبب النزاع.
على أن هذه الاندفاعة نحو السلام لن تسدل الستار النهائي على نزاعات الاقليم. فالخوف لا يزال قائماً من أن تتعثر محاولات التسوية هذه لسبب أو لآخر. علامات الاستفهام لا تزال تحيط بمدى جدية أطراف النزاع في جنوب السودان وقناعتهم بوضع السلاح جانباً، أم أنهم فقط يحْنون رؤوسهم لفترة مؤقتة في مواجهة الضغوط الخارجية عليهم، وهو ما يظهر في اتخاذ بعض الخطوات الانفرادية أو المناوئة مثل قيام برلمان جنوب السودان بالتمديد لرئاسة سلفا كير.. وكذلك في أثيوبيا، حدث تفجير أثناء حفل خطابي لآبي أحمد في أديس ابابا.
ويتركز الانتباه في أثيوبيا على ما ستقوم به مجموعة "التغراي" (مجموعة إثنية تعيش في الأجزاء الوسطى والشمالية من أريتريا، وفي المرتفعات الشرقية الإثيوبية في إقليم التغراي، وهم يشكلون قرابة 99.6 من نسبة سكان هذا الإقليم الإثيوبي) التي شكلت العمود الفقري للدولة منذ الاطاحة بالنظام السابق قبل 27 عاماً، وظلت محرك العداء الرئيسي لأريتريا ورئيسها. وقد حدث في الاشهر القليلة الماضية انقلاب داخلي في اثيوبيا تسلم بموجيه أبي أحمد السلطة، وهو من "مجموعة الأورومو" الاثنية التي تشكل نحو 40 في المئة من سكان البلاد. والرئيس الجديد بدأ في اتخاذ خطوات تصالحية داخلية ومع الجيران، الأمر الذي يهدد مواقع نفوذ التغراي الذين لا تزيد نسبتهم عن 6 في المئة من إجمالي عدد السكان.
تعيين أبي أحمد رئيسا للوزراء وبرنامج الانفتاح الذي بدأ في تنفيذه يمثل انتقالاً لنفوذ السلطة من مربع الجهة التي أسهمت عسكرياً بالإطاحة بالنظام السابق الى مربع أصحاب الثقل السكاني.