ليس الموضوع الحق الفلسطيني. فهذا لا تُغيِّر فيه خرافات الصهاينة ولا اعتداءاتهم. بل المطروح الآن بإلحاح يتعلق بتلمس ما يَظهر من «استحالة» إسرائيل. استحالتها ليس فحسب بنظر وإرادة رافضيها ومناهضيها، أو ضحاياها المباشرين، ليس فحسب بسبب ما تمثله من ظلم صافٍ... وإنما بسبب ما انتهت إليه الظاهرة كمعطى سياسي موضوعي، وهو مآل كان متضمَّناً أصلاً في بذرة نشوئها واحتاج وقتاً (قليلاً) ليتعرى وينكشف. إسرائيل اليوم لم تعد حتى تدَّعي أنها نموذج تعاوني مساواتي ومكان للعدالة الاجتماعية لليهود أنفسهم، ولا لبناء «مجتمع جديد». التحركات الاجتماعية الكبيرة التي انفجرت منذ سنتين وطافت تظاهراتها واعتصاماتها في شوارع تل أبيب مؤشر على التصفية اللاحقة بالتقديمات الاجتماعية العالية التي بدأ بها المشروع.
لم يعد هناك طبابة مجانية لائقة (لليهود)، ولا تعليم مجاني لائق (لهم، وليس لعموم السكان). وهناك من بينهم فئات واسعة مهمَّشة ومضطهَدة حد التمييز العنصري الصريح، وهناك فقراء فقراً مدقعاً. إسرائيل باتت شركة «هاي تك» تبيع «النانو تكنولوجيا» العسكرية والمدنية على السواء... وتبيع كذلك خبرات مكافحة «الشغب» وحرب المدن. ولديها جيش هائل قوامه الخدمة الإلزامية والاحتياط، ولكنه يبدو غير مستعد لأي قتال جدي، إذ اضطربت والحال تلك صدقية الأهداف التي كانت الحركة الصهيونية قد تمكنت من تحفيز أتباعها حولها (بغض النظر عن جدارتها).
هذا العراء يمثل وصول المشروع الصهيوني إلى نهايته. اصطدامه بنفسه. حتى باتت إسرائيل عبئاً على صانعيها أنفسهم وحماتها في الغرب الذين صاروا يوجهون الانتقادات العلنية إلى مواقفها «غير المعقولة»: لكن هذه المواقف ليست أمراً طارئاً أو خيارات، بل هي عُصاب يصل حد الجنون. وهو نتاج تناقضات لا حل لها: معسكر مغلق مدجج بالسلاح، يقوم وسط محيط معاد، على أرض مغتصبة لم يتمكن من تصفية سكانها الأصليين، ونيوليبرالية وفساد وبزنس...
نحن، ضحاياها، كنا «نعرف». لم نُخدع أبدا برغم كل المحاولات، وقد كانت أوسلو آخرها. وقبلها قيل «الجيش الذي لا يُهزم»، وقيل إنها نقطة توافق بل إجماع دولي (بما يشبه القدر!). استُخدم التيئيس كوسيلة للإخضاع يرافقه التشكيك في المرتكزات والعنف المنفلت. لكننا كنا «نعرف». اسألوا الصبي بجانب جدته. هي عاشت النكبة وهو سيعود.