تبجيل الدم

غريب أمر تنظيم القاعدة، يُسفّه الدنيا وأهلها، ولكنه ينشط فيها، وبينهم وعليهم، كما لم يُر سابقاً. هناك موجات من الفعل السياسي تكرس تقاليد معينة، هذه تعلي من شأن نكران الذات، وتلك تؤسس للارتزاق من النضال، وثالثة تبرر كل شيء بدعوى البرغماتية والفعالية... وتترتب على كل واحدة من الموجات نتائج، لا تشيع جوا عاماً طاغياً فحسب، بل تتدخل بالتأكيد في مصير الفعل السياسي نفسه، حتى ولو لم تكن هي من يقرر
2013-08-21

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

غريب أمر تنظيم القاعدة، يُسفّه الدنيا وأهلها، ولكنه ينشط فيها، وبينهم وعليهم، كما لم يُر سابقاً. هناك موجات من الفعل السياسي تكرس تقاليد معينة، هذه تعلي من شأن نكران الذات، وتلك تؤسس للارتزاق من النضال، وثالثة تبرر كل شيء بدعوى البرغماتية والفعالية... وتترتب على كل واحدة من الموجات نتائج، لا تشيع جوا عاماً طاغياً فحسب، بل تتدخل بالتأكيد في مصير الفعل السياسي نفسه، حتى ولو لم تكن هي من يقرر مآلاته. وأما القاعدة، فقد سيّدت إراقة الدماء. سيارات مفخخة، وانتحاريون يقتلون أنفسهم والآخرين.
تقع التفجيرات دائما في الأمكنة المكتظة، الأسواق ودور العبادة، وبمناسبة كل احتشاد، سواء أكان عيداً أو مأتماً... حتى سقطت كل المحرمات وأزيلت كل مهابة. تقتل القاعدة الآخرين: الشيعة خصوصاً اليوم، ولكن المسيحيين أيضاً، وصولا إلى السنّة من خارج دائرة من «ذاق من حلاوة ما أنتم فيه»، بحسب ما قال لأنصاره منذ أيام ناصر الوحيشي، زعيم جناح «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب».
اختصت القاعدة بامتهان الدم، فتحول «أرخص من الماء»، بما يجعل إهداره مألوفا لا يتسبب بصدمة، كما ينبغي له. وهذا أخطر بكثير من الانشطار العمودي الذي تعتاش عليه القاعدة وتغذيه في آن. الانقسام المذهبي/الهوياتي يشبه إسفيناً مدقوقاً في كل مجتمع على حدة، ثم في عموم المنطقة بطولها وعرضها. وهو لا يتيح احتمال أي تفاعل بين عناصره وأي تعديل. مجمِّد معطِّل إذاً والسلام. القاعدة هي التمثيل المبسط لأحد جناحي هذا الانشطار العقيم تعريفاً، بينما تتولى تأبيد هذا الجدل صيغ معادِلة لها في الجناح الشيعي. يا للادقاع.
ولكن القاعدة لم تخترع العنف الدموي من فراغ، ولو أنها رفعته إلى مصاف المنهج. بل نرى استعداداً لانفلات القتل والتنكيل والثأر يتجاوز من بعيد الانتكاس إلى منطق الغلبة العشائرية وتقاليدها. لعل الناس أمْرَضهم الإذلال المديد والمتعمد الذي أوقعته السلطات المستبدة على هذه المجتمعات، والإفقار بواسطة النهب المنفلت من عقاله وإهمال الناس وتركهم إلى مصيرهم، وأخيراً قمعهم المباشر بكل الوسائل، وهو الثالوث الذي هُندِس للسيطرة. فاستبطنوه وها هم يتقيؤونه اليوم عنفاً مجنوناً.
            
 


وسوم: العدد 58

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...