أنتمي لجيل تُعرِّفه الأدبيّات السياسيّة بإسم "جيل أوسلو". جيلٌ وُلد لسنوات "السلام"، إلا أنّه نشأ حقيقةً على واقع الانتفاضة الثانية. جيل أطفال شاهدوا احتفالات ومسيرات السلام عام 1993 عبر التلفزيون، وحين وطأت أقدامهم الشوارع، لم يمشوا إلا في جنازات الشهداء. إلا أنّ هذا اللقب الدقيق الذي وُصم به جيلنا لا علاقة له بالسلم والحرب، إنما بجوهر وحقيقة عمليّة أوسلو: أنّها ليست إلا عمليّة ترويض وتقويض لحركة تحرّر شعبيّة وتحويلها سلطةً إداريّة خاضعة لمصالح الاستعمار. تحوّل الثورة إلى "سلطة"، استئصال القلب الشعبي الاجتماعي الفاعل من جسد الحركة السياسيّة، وتهجينها في سياقٍ دبلوماسي دولي مرهون بمحاور الهيمنة الحليفة لإسرائيل. عملياً، نحن أبناء "أوسلو" لأننا أوّل جيل فلسطيني يكبر دون حركة تحرّر وطنيّة شعبيّة جامعة.
سأحاول هنا أن أمشي على الطريق الضيّق المخنوق، بين الواقع - الكارثة والأمل. بين القراءة العلميّة للفظاعة المنهجيّة التي ترتكبها الصهيونيّة في فلسطين، وبين الخيال السياسي، نقاط الضوء، القدرات الدفينة والتوق الفطري لرؤيا قيميّة إنسانيّة تحرّريّة لفلسطين. هو طريق ضيّق صعب مركّب، يقودنا دائماً وحتماً إلى سؤال العمل.. السؤال الذي لا يمتلك الفلسطينيون رفاهيّة تجاهله.
لماذا يهم ذلك في مقدّمة للحديث عن السيناريوهات المستقبليّة؟ لأنّ أي احتمال من احتمالات المستقبل: واقعيّ أو مثالي، تقليدي أو مُبدع، لا يمكنه أن يحمل أي مصلحة للشعب الفلسطيني دون وجود حركة سياسيّة اجتماعيّة تحرّريّة تُمسك بزمام مستقبلها وتمتلك مصيرها. لا يُمكن التفكير بأي مستقبلٍ إيجابي لا يكون ناتجاً مباشِراً لحركة الإنسان الفلسطيني. يُمكن طرح ألف حل، إلا أن الضمان الوحيد لمستقبلٍ كريم هو تعزيز مقدرات الناس في تخيّل مستقبلها، وتمكين أدوات تحقيق هذا المستقبل من خلال العمل السياسي الشعبي. هذه هي البنية التحتيّة لأي إمكانيّة تحرّريّة، ديمقراطيّة، تحفظ قيم العدالة والحق.
من أين نُفكّر بإسرائيل؟
12-05-2017
لذلك، فإن السؤال المطروح هنا يتوخّى التجهّز لمواجهة أوسع قوسٍ من السيناريوهات المستقبليّة – دمويّة كانت أم ورديّة. هو سؤال عن إمكانيّات إعادة بناء حركة تحرّر شعبيّة فلسطينيّة. ما الذي تعنيه هذه الحركة؟ ما الذي تواجهه؟ وأين أشعّة نورها وسط حَلَك الكارثة وقهرها الأليم؟
ما الذي نعنيه حين نقول "حركة تحرّر"؟
أعترف أن وجهة النظر التي سأطرحها ليست وجهة نظر أكاديميّة. هذا، أصلًا، الإثم المفضّل لديّ. وجهة النظر التي سأطرحها منحازة لمفاهيم نضاليّة وقيميّة قد لا تكون مطابقة لما يحدث اليوم على الأرض فعلياً، ولكنّها تقع بالتأكيد في صلب مبادئ ودوافع وتربية وأدبيّات ضروريّة ومصيريّة بالنسبة لشعب يناضل ضد الاستعمار.
لا يكمن جوهر حركة التحرّر انطلاقاً من تفحص هدفها والنتيجة التي تحقّقها، إنما باعتبار الشكل الذي يُصمَّمْ فيه المجتمع ليكون قادراً على مواجهة الاستبداد. موازين القوى العالميّة يُمكنها غداً صباحاً أن تتبدّل وتنصر الفلسطينيين، لكن مجتمعاً غير قادر على الدفاع عن مستقبله، هو بذاته، لا يُمكنه إلا أن ينتقل من شكل عبوديّة لآخر. وعليه فلا بد أن ننظر إلى حركة التحرّر كحركة سياسيّة شعبيّة ترى بالتحرّر ليس فعلاً مقاوماً فحسب، وإنما فعلاً بنّاءً للمجتمع.
أنتمي لجيل تُعرِّفه الأدبيّات السياسيّة بإسم "جيل أوسلو". جيلٌ وُلد لسنوات "السلام" إلا أنّه نشأ حقيقةً على واقع الانتفاضة الثانية. جيل أطفال شاهدوا احتفالات ومسيرات السلام عام 1993 عبر التلفزيون، وحين وطأت أقدامهم الشوارع، لم يمشوا إلا في جنازات الشهداء.
إن الشرط الأوّل والأكثر أساسيّة لحركة تحرّر شعبيّة هو الوجود المادّي لمجموعة بشريّة ترى بنفسها شعباَ موحّداً. هذا الشرط، الذي يُفترض أن يكون مفهوماً ضمناً في أي مكانٍ في العالم، ليس كذلك إطلاقًا في الحالة الفلسطينيّة. وجود مجموعة إنسانيّة فلسطينيّة تتشارك التاريخ ذاته والمستقبل السياسي والاجتماعي ذاته هو وجود مستهدف بشكلٍ دائم من خلال طمس تاريخ المجموعة وضرب حاضرها ومنع وحدة مستقبلها. وجود الشعب الفلسطيني كوحدة اجتماعيّة وسياسيّة لا يزال مطرح سؤال وإنكار واستهداف من قبل الاستعمار. لذلك فإن الحفاظ على هذه المجموعة ووحدتها، وعلى مزاياها الاجتماعيّة والسياسيّة ووحدة مستقبلها هو شرط حتمي من أجل إعادة بناء حركة تحرر وطني.
لكن وجود المجموعة، وإن كانت متماسكة، لا يصنع وحده ظرفاً ثورياً ولا حتّى تقدّمياً. فما الذي يدفع مجموعة بشريّة، مجتمعاً، نحو الفعل التحرّري؟ ما الذي يدفع المستعبَدين للبحث عن حريّتهم؟ اللغة. أدوات تداول الخيال. الإبداع. التعبير. الثقافة. المعرفة. النقديّة التي تستجوب الواقع وتنادي بتغييره.. هذا ما يشكّل بالنسبة للمجموعة رافداً للسؤال وللتحرّك. لا يمكن لمجموعة من الناس أن تتحرّك باتجاه سياسي من دون مخيّلة مشتركة. ولا يُمكن بناء مخيّلة مشتركة من دون عمليّة ثقافيّة واسعة ومركّبة. ومن دونها، يتحوّل الانتماء إلى الجماعة إلى عصبيّة عرقيّة خطيرة. الثقافة هي الشرط المفصلي الثاني في بناء حركة التحرّر، لأنها العامل الذي يرتقي بالانتماء العرقي والقومي الموروث إلى المستوى القيمي، ويُكْسبه الأخلاق الإنسانيّة الكونيّة التحرّريّة.
الشرط الثالث الذي تتطلّبه حركة تحرّر وطنيّ هو شرط العمل السياسي. النضال، الحركة بحدّ ذاتها. ليس العمل السياسي ناتجاً أوتوماتيكياً عن الانتماء لجماعة معيّنة. ممنوع أصلًا أن يكون كذلك. وهو للأسف ليس ناتجاً أوتوماتيكياً للثقافة. حركة التحرّر الوطني وظيفتها أن تشكّل إطاراً للعمل السياسي تُستثمر فيه المقدرات الشعبيّة وتكون في الثقافة رافداً توعوياً ونقدياً. لكن العمل السياسي هو التّجسد الأهم للإرادة الجماعيّة. تتحوّل الجماعة من دونه عرقاً، ومن دونه تتحوّل الثقافة فلكلوراً غير منتِج. المشاركة في العمل السياسي هي أرقى نقطة يصلها المجتمع، ولا يمكنه من دونها تحصيل حريّته.
هذا العمل السياسي الذي نتحدّث عنه يُتوقّع منه ثلاث: الثبات القيميّ، المواكبة والمرونة، وتوسيع الشراكة النضاليّة:
• ليس الثبات القيمي ثباتاً على مساحة وحدود، ولا هو التقاسم العرقي للأرض والسلطات. القيمة الأساسيّة ــ حجر الأساس ــ لحركة التحرّر الفلسطينيّة هي أنها ترفض أي سيادة عنصريّة في فلسطين التاريخيّة، بما يشمله ذلك من احتلال عسكري، استعمار استيطاني، تمييز عنصري وأي شكل كان من أشكال ربط السياسة بالعرق والدين بدل حقوق المواطنة وحقوق الإنسان. لا يمكن لحركة تحرّر وطني أن تتصالح مع نظام عنصري من حيث جوهره الايديولوجي. هذه استحالة.
• ليس بوسع العمل السياسيّ أن يتقدّم دون أن يقيم اعتباراً كامل الجديّة للتغيّرات الجارية في عصرنا. هناك أسئلة معاصرة على التنظيم السياسي أن يتعامل معها: توغّل الفردانيّة، لامحدوديّة التكنولوجيا، تغيّر أدوات الهيمنة الاقتصاديّة، مكانة الحريّات الشخصيّة، نهاية عصر الحزب السياسي والانتماء الايديولوجي.. هذه كلها معايير تحتاج ابتكار أشكال جديدة من التنظيم السياسي لتواكبها. البناء الحزبي التقليدي لم يعد ناجعاً أو ممكناً، وباتت الحركات السياسيّة تحتاج أشكالاً تنظيميّة أكثر مرونةً وأقل مركزيّة وتطلّباً من أعضائها.
• وثالثاً وأخيراً، فمن واجب حركة التحرّر الوطني أن تعمل على توسيع الشراكات النضاليّة أممياً، أن تتحالف مع من يُشبهنا في المعاناة وفي التوق للحريّة، أن تنبني العلاقة على المشاركة النضاليّة وليس على التضامن من طرف واحد. الشراكة في العمل، تعزيز المصالح المشتركة واستهداف الأعداء المشتركين في زمنٍ تستفيد فيه الشركات الكبرى والحكومات من عولمة القمع.
لا يمكن لمجموعة من الناس أن تتحرّك باتجاه سياسي من دون مخيّلة مشتركة. ولا يُمكن بناء مخيّلة مشتركة من دون عمليّة ثقافيّة واسعة ومركّبة. فمن دونها، يتحوّل الانتماء إلى الجماعة إلى عصبيّة عرقيّة خطيرة.
هذه عوامل أساسيّة تستحق أن نتوقّف عندها، ولا إمكانيّة حقيقيّة لإعادة بناء حركة التحرّر الوطني الفلسطيني من دونها، وهي كلّها عرضةً للهجوم الإسرائيلي ولعنف الاستعمار الدائم. فإسرائيل ماضية في نهج تفكيك المجتمع الفلسطيني، وهي تخوض اليوم مراحل مفصليّة في هذا السياق. وتخوض كذلك سياسات عميقة تستهدف الثقافة من خلال تحويلها فلكلوراً و/ أو نقيضاً للسياسة. أما العمل السياسي فيُلاحق بأشرس وأشدّ الأساليب القمعيّة الممكنة.
ما الذي يُعدم حركة التحرّر اليوم؟
واحدة من أهم العناصر التي تميّز نموذج الاستعمار الصهيونيّ (الفريد تاريخياً) هي قدرته على الدمج بين العصبيّات البدائيّة كالأساطير والمعتقدات، وأدوات القمع الوحشيّة مثل الإعدام والتغذية القسريّةمن جهة، ومن جهةٍ أخرى التقدّم العلمي والتكنولوجي والتقني في وسائل القتل والمراقبة والقمع والاقتصاد النيوليبرالي والعولمة.
من هنا، فإن احتمالات مستقبل الجريمة الصهيونيّة يتأرجح بين بدائيّة النظام وعصريّته... بين الإمكانيّات البدائيّة كالمجازر والإعدامات الميدانيّة والهدم والتهجير المباشر والمكثّف لشرائح واسعة من الفلسطينيين في سبيل الحفاظ على أغلبيّة يهوديّة من النهر إلى البحر (أي حملة تطهير عرقي أخرى). وهذا حصل ويُمكنه أن يحصل مجددا. ليست هذه مبالغة بهدف الترويع. كل عاقل قرأ القليل عن تاريخ الأنظمة الفاشيّة يستطيع أن يرى إلى أين تسير الأمور في فلسطين. ومن جهةٍ أخرى، وبالوسائل الحديثة "الذكيّة"، هناك إمكانيّة استخدام السياسات الاقتصاديّة، الاجتماعيّة والثقافيّة من أجل إحداث ما يمكن أن نسمّيه "تطهيراً سياسياً" للمجتمع الفلسطيني، وذلك من خلال تجريم العمل السياسي وملاحقته بشكلٍ هستيري، وتحويل الهويّة الوطنيّة إلى هويّة عرقيّة فلكلوريّة واثنوغرافيّة جامدة تُمارس دون تنافي مع الصهيونيّة. وتوجيه التعليم الأكاديمي للفلسطينيين نحو مجالات معقّمة سياسيّاً واجتماعياً، كالعلوم التطبيقيّة والطب والتكنولوجيا، حيث يُصبح النجاح ممكنًا على الصعيد الفردي، بموازاة سياسات إفقار لشرائح واسعة، على أن تكون الثغرات الوحيدة للعيش الكريم هي بواسطة التماهي مع الدولة الإسرائيليّة.
إسرائيل ماضية في نهج تفكيك المجتمع الفلسطيني، وهي تخوض اليوم مراحل مفصليّة في هذا السياق. وتخوض كذلك سياسات عميقة تستهدف الثقافة من خلال تحويلها فلكلوراً و/ أو نقيضاً للسياسة. أما العمل السياسي فيُلاحَق بأشرس وأشدّ الأساليب القمعيّة الممكنة.
لنحاول أن نُطبّق هذه الإمكانيّات على شروط حركة التحرّر:
تسعى إسرائيل إلى تدمير المجتمع الفلسطيني بوسائل عدّة. الأداة الأولى هي تشتيت الناس وطردهم من فلسطين، ومن ثمّ إخضاع من بقي فيها (وخارجها، بطرق مركّبة) إلى وسائل سيطرة مختلفة وأطر قانونيّة واقتصاديّة مختلفة. كذلك يُستخدم الفصل الجغرافي وتقييد حرية الحركة. غزة معزولة كلياً، الضفّة الغربيّة مخنوقة، لا يُمكن للاجئين العودة، أما الفلسطينيّون المواطنين في إسرائيل فيخضعون لتقييد شديد على حريّتهم في الحركة بما يتعلّق بزياراتهم للوطن العربي وعزلهم عن امتدادهم الطبيعي ومنعهم من التواصل مع عائلاتهم من اللاجئين.
بموازاة هذا كلّه، لا بدّ من التنبّه إلى الخطورة الماسّة والفوريّة التي تواجه الشعب الفلسطيني في السنوات الاخيرة: الحرب الأليمة في سوريا، والأحداث في لبنان (منذ أحداث مخيم نهر البارد) تحمل تأثيراً مباشراً على الوحدة الاجتماعيّة للاجئين الفلسطينيين. إلى جانب المعاناة التي نعرفها جميعاً (من وحشيّة الدكتاتوريّة بالأساس)، نشهد كارثة سياسيّة ــ اجتماعيّة إضافيّة: فقدان اللاجئين الفلسطينيين لروابطهم كجماعة سياسيّة، فقدان "المخيّم" ككيان اجتماعي وكتعبير سياسي عن التمسّك بإرادة العودة. ونشهد عمليّة تذويب للجوء الفلسطينيّ، بما يحمله من خاصيّة سياسيّة، في أزمة اللجوء العالميّة.
سمات إسرائيل المختنقة
22-10-2015
على مستوى العمل السياسيّ: يمكننا أن نرى سياسات ملاحقة وقمع جديّة تنجح في إحباط أي تنظيم سياسي يتناقض مع الصهيونيّة. يمكن أن نرى الهجوم المهووس على المجتمع المدني الفلسطيني، على الأحزاب السياسيّة والحركات الشبابيّة، حتّى تلك التي تكتفي بالنشاطات التوعوية. حتّى حركة المقاطعة باتت في عُرف المحكمة الإسرائيليّة العليا "إرهاباً سياسيّاً". والأهم طبعاً، قتل المتظاهرين العُزّل، الاعتقالات الجماعية، المحاكم الصوريّة، الاعتقالات الإداريّة، وقائمة طويلة من منهجيّات القمع الوحشيّة.
بموازاة اشتداد تجريم العمل السياسي وملاحقته الهستيريّة، يواصل النظام فتح نوافذ "معيشيّة" لكل من ينأى بنفسه عن السياسة. في مجال التشغيل، التعليم، الحق في الحركة، يُمكن للأفراد أن ينتفعوا أو يحظوا ببعض الامتيازات أو حتى النجاحات الفردية (الملفتة فعلاً)، طالما ابتعدوا عن الشأن السياسي. وفي حين يفتح النظام منافذ ضيّقة لنماذج نجاح شخصيّة وفرديّة، فهو يطبّق في الوقت ذاته سياسات تفقير وحصار عنيفة ضد المجتمع الفلسطينيّ، بينما يُبقي الوسيلة الوحيدة للمعيشة والبقاء هي قبول الخضوع للسلطة الإسرائيليّة وللإجماع الصهيوني.
في ظل هذه الظروف، شهد المجتمع الفلسطيني في العقدين الأخيرين تصاعداً ملحوظاً في مجال الإنتاج الثقافي. مع هذا، فلا بدّ من التنبّه إلى أن جزءاً ضخماً من هذا المشهد المتصاعد كان مدعوماً من سلطة أوسلو الفلسطينيّة، من الصناديق الغربيّة وحتّى من الحكومة الإسرائيليّة ذاتها، وذلك بهدف تمكين مشهدٍ ثقافيّ يعمل كبديل ونقيض للانخراط في السياسة. وهكذا انتهينا إلى مغالطات يقول بعضها بأن الفن يستطيع وحده وبحد ذاته ان ينتصر على الاحتلال، وأخرى تقول بوجوب فصل الفنّ عن السياسة، بموازاة مهننة الثقافة ومأسستها بالتجاوب مع قيم السوق والرأسمالية. وهكذا تجري في فلسطين عمليّة استئصال للسياسة من المشهد الثقافي وتحويل الثقافة إلى أداة ترفيهيّة فلكلوريّة معقّمة من السياسة.
أين نقاط الضوء إذاً؟
على الرغم من هذا كلّه.، فإن الكارثة كلّما اشتدّت، زادت الثغرات فيها، وزادت نقاط الضوء. هذا الوضع، بكل سوداويّته، يحمل إمكانيّات جديدة يجب التطرّق لها والتفكير باستثمارها من أجل إعادة بناء حركة التحرّر.
الوجود الاجتماعيّ الموحّد للفلسطينيين المستعمَرين هو الشرط الأوّل لبناء الحركة. ويبدو هذا الظرف في أسوأ أيّامه، خاصةً مع اشتداد الحرب في سوريا، إضافة إلى تهميش دور اللاجئين أصلاً في النضال الفلسطيني، منذ العام 1982 (اجتياح اسرائيل للبنان وخروج الفدائيين منه الى اصقاع الارض الاربعة). هذا الوضع الكارثي يخلق واقعاً جديداً ينتقل فيه آلاف اللاجئين الفلسطينيين، من الشباب خاصةً، للعيش في أوروبا والولايات المتّحدة وأمريكا اللاتينيّة، إلى جانب آلاف الفلسطينيين الذين لجأوا إلى هناك أصلًا. وهذا يمكنه أن يشكّل علاقات وروابط جديدة بين الفلسطينيين داخل إسرائيل وشرائح اللاجئين الذين عُزلوا عنهم تاريخيّاً بسبب المنع الإسرائيليّ على السفر للوطن العربي، إضافةً إلى الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين الذي ضاق بهم الحال في غزّة والضفّة الغربيّة فخرجوا للعمل او التعلّم في الخارج. تستفيد اسرائيل فعلًا من تذويب مجموعة اللاجئين الفلسطينيين في المجتمعات الغربيّة، لما في ذلك من إضعاف للروابط الاجتماعيّة وتعزيز الفردانيّة وطمس اللجوء كهويّة سياسيّة. إنما ومن جهةٍ أخرى، فإن الظروف الجديدة يُمكنها أن تشكّل أنماطاً من الوحدة والتواصل بين الفلسطينيين خارج فلسطين (وهو ما لا يقل أهميّة إطلاقًا عمّا يحدث داخل فلسطين). يمكن لهذه الظروف الجديدة، لو انتُهزت، أن تساهم في تطوير المزيد من التفاعل الثقافي والسياسيّ المتحرّر من الأعباء التقليديّة القبليّة أو الطائفيّة أو حتّى الفصائليّة، وتطوّر أنماط جديدة من العمل خارج الخطاب السياسي والتنظيمي المتآكل، وهو ما يُمكنه بالوقت ذاته أن يعزز الشراكة النضاليّة الدوليّة بالمزيد من الطاقات والأصوات الفاعلة.
واحدة من أهم العناصر التي تميّز نموذج الاستعمار الصهيونيّ (الفريد تاريخياً) هي قدرته على الدمج بين العصبيّات البدائيّة كالأساطير والمعتقدات، وأدوات القمع الوحشيّة مثل الإعدام والتغذية القسريّة من جهة، ومن جهةٍ أخرى التقدّم العلمي والتكنولوجي والتقني في وسائل القتل والمراقبة والقمع والاقتصاد النيوليبرالي والعولمة.
أما في حقل الثقافة، فإن نزع السياسة عن العمل الثقافيّ في العقدين الأخيرين أحدث ردّ فعلٍ نشيط وعنيد من قبل شابات وشبّان يعملون في الفنّ والثقافة ويرفضون الفصل بين الثقافة والسياسة.. فنرى مشهداً ثقافياً بدأ ينضج ليعيد التفكير في تجربة العقدين الأخيرين. هكذا باتت أجزاء كبيرة فاعلة في المشهد الثقافي تُدرك أن معالجة المادّة السياسيّة ليست حاجة إنسانيّة وواجباً أخلاقياً فحسب، إنما هي أداة مركزيّة أساسيّة لإثراء العمل الثقافي فكرياً وجمالياً. وهناك أعداد متزايدة من المشاريع والتجارب التي تطرح ذاتها كمشاريع مستقلّة، وتنبّهاً متزايداً إلى دور ظروف الانتاج وتمويله في صياغة المحتوى الثقافيّ. ونشهد إدراكاً بأنّ إنتاج ثقافي يقبل الرقابة السياسيّة (المباشرة بواسطة قمع الاستعمار، أو الناعمة بواسطة الممولين) أو الرّقابة الذاتيّة، ودون الخوض في السياسة كظرف إنساني واجتماعي جوهري، لا يُنتج ثقافة رثّة فحسب، بل يساهم أيضاً في تصعيد القمع وتعميقه وتنجيعه. هذا الوعي المتزايد، والذي ما زال يحتاج تطويراً هائلًا، من شأنه أن يعيد الطبيعة التحرّريّة إلى قلب الإنتاج الإبداعي، ويُمارس ذلك فعلياً من خلال رفض ظرف الانتاج القمعي والاستعماري المباشِر وغير المباشِر، من تعاون وتمويل وما شابه.. والتأكيد على أن تحرير وسائل الإنتاج الثقافيّ هو الشرط الأوّل لخلق ثقافةٍ حرّة، وتطوير ثقافة قادرة على تحرير الناس.
ومن هنا، نصل إلى النقطة الثالثة، وربّما الأهم. وهي إطار العمل السياسيّ الذي يُمكن للفلسطينيين في كل العالم أن يتجنّدوا ليكونوا جزءاً منه، والذي يزرع في داخلنا وعياً مقاوماً وليس فعلاً مقاوماً فحسب. الفعل السياسيّ الذي تتركّب في داخله الحياة الثقافيّة المستقلّة والرافضة للاستعمار بغض النظر عن مضمونها، والمقصود حركة مقاطعة إسرائيل.
لم يؤسس الفلسطينيّون حركتهم السياسيّة على أساس صراعٍ ممتد. الوهم الذي عاشه أجدادنا في النكبة من أنها "قصّة أيام ونعود" لا يزال بنيوياً في التنظير السياسي الفلسطيني، ولم تواجهه إلا ردّة فعلٍ مهزومة متشائمة نقيضة، مساوية في الوهم، تقول أننا "لن نعود أبداً"، وأن فلسطين لن تحظى بالحرية، وأن النظام العنصري قادر على البقاء إلى الأبد.
وسط كل التهافت السياسيّ الذي تعيشه حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، فإن حركة مقاطعة إسرائيل اليوم هي إطار عمل سياسي فيه مجال لجمع الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم بل وفي جميع مجالات اهتماماتهم وعملهم. أهميّة حركة المقاطعة اليوم أنّها أولاً لا تعمل تحت أي إطار تفاوضي، لا يُمكن إخضاعها لأي سلطة، وبالتالي فإن ثباتها القيمي على مبادئ حق العودة وانهاء الاستعمار ليس محلاً للشك. كذلك، فإن أسلوب حركة المقاطعة يُتيح مجالات عمل مرنة، ويفتح المجال أمام مجموعات متعددة ومختلفة من حيث تركيبتها وبنيتها، وحتى للأفراد، في تبنّي مبادئ المقاطعة ومعاييرها، وهو يشكل جواباً على حاجة عصريّة في العمل السياسي. والأهم من هذا أنها قادرة على بناء شراكات أمميّة لا تعتمد على التضامن أحادي الاتجاه، إنما التكافل في القضايا المشتركة للمضطهدين أينما كانوا. التكافل والعمل المشترك ضد شركات تعولم القمع: فمن يجهّز نظم القمع على الحواجز هو نفسه من يُدير سجون اللاجئين في بريطانيا وسجون الأطفال الربحيّة في الولايات المتّحدة.
والأهم من هذا أن تبنّي معايير ومبادئ حركة المقاطعة بات اليوم المنفذ الوحيد لليهود في إسرائيل لإعلان تنصّلهم الفعّال من الصهيونيّة وجرائمها. تبنّي مقاطعة إسرائيل كاملةً هو أول الطريق في صناعة الحريّة والعدالة في فلسطين: تنازل اليهود في أرض فلسطين عن امتيازاتهم الصهيونيّة.
نعم، نخترع العجل
قد يبدو بعض ما أتى هنا وكأنه اختراعاً للعجل. نُعيد تعريف حركة تحرّر وطني، ونبحث عن إعادة صياغة المجموعة البشريّة للفلسطينيين ودور الثقافة بالسياسة وإلى آخره... هي كلّها أمور تبدو وكأنه عودة إلى البديهيّات. وهي فعلًا كذلك.
إن الوضع الذي وصلته القضيّة الفلسطينيّة اليوم يحتاج إلى إعادة تعريف للبديهيات وإعادة صياغتها بلغةٍ تنسجم مع حاجات وتطلّعت الأجيال الجديدة. والأهم من ذلك أنه منذ سنوات ما قبل النكبة، لم يؤسس الفلسطينيّون حركتهم السياسيّة على أساس صراعٍ سيمتد لأكثر من بضعة عقود. نعم، الوهم الذي عاشه أجدادنا في النكبة، من أنها "قصّة أيام ونعود"، لا يزال بنيوياً في التنظير السياسي الفلسطيني، ولم تواجهه إلا ردّة فعلٍ مهزومة متشائمة نقيضة مساوية في الوهم، تلك التي تتقول أننا لن نعود أبداً، وأن فلسطين لن تحظى بالحرية أبداً، وأن النظام العنصري قادر على البقاء إلى الأبد. وبين هذين الوهمين علينا أن نبني الحقيقة الجديدة.
فلسطين: منطق الأرض
31-03-2016
قد نستيقظ غداً في هذا العالم المجنون ونجد الأمور قد انقلبت رأساً على عقب لصالح الفلسطينيين. في الوقت ذاته، ليس من المحال أن يتمكّن النظام الصهيوني من إيجاد الطريق لتأبيد نفسه كما فعل الاستعمار الأوروبي في شمال أمريكا وأستراليا وغيرها. لا نستطيع نفي أي احتمالٍ من بين عشرات الاحتمالات، أما التكهّنات فكلّها في عِداد القمار.
إن التفكير بالمستقبل غير ممكنٍ فعلاً إلا كتفكير بمستقبل النضال. والنضال الذي يريد أن ينتصر بعد عشرين عاماً، عليه أن يتجهّز للاستمرار مئتي عام. ولا يكون ذلك لا بطأطأة الرؤوس ولا بالتقاعس، إنما بالثبات القيميّ وصلابة البناء والحث على تطوير الحركة وتجهيزها في إطار وظيفتها الجوهريّة: التنافي مع الصهيونيّة.
لذلك، علينا أولًا أن نعيد بناء الوحدة الاجتماعيّة لشعبنا، في المركز منها وفي جوهرها العلاقة النضاليّة ــ الاجتماعيّة والسياسيّة الفاعلة ــ مع اللجوء الفلسطينيّ، وإيجاد قنوات الربط بين جميع الشرائح الفلسطينيّة وتوطيدها، واستخدام كل منها لمقدراتها وإمكانيّات وثغرات واقعها العصيب. وعلينا ثانياً أن نحوّل الانتاج الثقافي إلى مساحة جامعة تؤسس بواسطة الجدل رواية وهويّة جامعة للفلسطينيين، من خلال التزامها التام بالإطار السياسي في ظرف الانتاج الرافض لأي علاقة بالاستعمار، وثالثًا اعتماد حركة مقاطعة إسرائيل كإطار أوّلي، كمعيار مبدئي جامع وكحد أدنى يتّفق الجميع على ضرورة الالتزام به، والأهم كنموذج تنظيميّ حديث يُستفاد منه في بناء الحركة الأوسع.
ومن هنا، وبعد كل هذا، نكون قد وصلنا إلى نقطة البداية...