يكفينا سوداويّة. لنبدأ القصّة هذه المرّة بتفاصيل مُفرحة: في عام 2015، احتفلت قرية عرّابة البطّوف (نسبةً لسهل البطوف الجليلي) داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، بأنها تحتلّ المرتبة الأولى عالمياً بنسبة الأطباء فيها: 6.6 طبيب لكلّ 1000 إنسان. تكريم الأطباء الجدد صار في هذه القرية طقساً سنوياً. وواحدة من كُبرى الشبكات الإخباريّة في الوطن العربي أطلقت على القرية اسم "مدينة الطبّ الفلسطينية". في مقابلة، شرح رئيس المجلس المحلي هذا الإنجاز: "إنها تقاليد حُبّ العلم والثقافة في بلدتنا"، فلا تتركوا أحداً يُنغّص علينا فرحة النجاح، لا أولئك الذين تساءلوا عن سبب تكريم الأطباء دون غيرهم من المتخرجين في مجالات مختلفة، من المسرح إلى الفيزياء، ولا من ذكّروا بأن أقرب مستشفى من "قرية الطب الفلسطينية" يبعد ساعة سفر بالسيّارة، ولا من أجروا بحثاً بسيطاً في الإنترنت ليجدوا أنّ لقب "الأولى عالمياً" ليس صحيحاً لأنّ مدينة روشتسر في ولاية مينيسوتا الأمريكيّة فيها 18.7 طبيباً لكل 1000 إنسان، وغيرها الكثير. هذه الحقائق والإحصائيات، هذا النقد الاجتماعي والمطالبة بمواجهة الحقيقة، تُصبح هنا مجرد تنغيص لفرحة الجماهير بالنجاح.
يسعنا أن نكيل في هذا السياق مئات المعطيات عن فقر هذه القرية وغيرها من القرى والمدن الفلسطينيّة داخل الأرض المحتلة عام 1948. عن التعليم المهشّم ونسب التسرّب، عن الفقر والبطالة، انتشار السلاح والجريمة والعنف المجتمعي والتزمّت الديني والعشائرية.. (أحياء ومقابر ومدارس ومراكز طبيّة لا تزال مقسّمة بحسب الانتماء العشائري في أمكنةٍ تُسمّي نفسها "مُدناً"!)، والكوارث العمرانية وحال البنى التحتية والخدمات. قيل ذلك ويُقال، وهو هام وجدير بالمتابعة الدقيقة والمُلحّة. لكنّ وجهاً آخر للنقاش يتطلّب منا الانتباه وطرح الأسئلة: هناك توجّه اجتماعيّ واسع يَعرف هذا الواقع البائس ويعيشه، ويُصرّ على الرغم من هذا على الاحتفاء بالنجاح الصوري، والتمسّك بالإنجاز المعوق، ومواصلة السعي من أجل "إنتاج" المزيد من "قصص النجاح" التي تُحكى وتنتشر ويُحتفى بها ثم تختفي، دون أن نشعر بأننا ارتفعنا سنتيمتراً واحداً عن الحضيض الاجتماعي الذين نعيشه.. لكن العكس تماماً هو الصحيح.
المثال نموذج كلاسيكي خالص لمعنى التهميش العنصري: "الدخول إلى النجاح" يصبح منوطاً بمعرفة "اللغة العبريّة". ليس نطقها وكتابتها، إنما منطقها وبُنيتها وطبيعة حياتها. منطق وبنية وحياة منسجمة تماماً مع العقلية الصهيونيّة ومتماهية معها، بما تتضمّنه جوهرياً من نفي للوجود الفلسطيني
تتطلّب هذه القضية التوقف عند أسئلة كثيرة: عن جهاز التعليم الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، وعن العلاقة النفسية ـ السياسية بين الفلسطيني والمستعمِر، وعن الفشل غير المبرَّر في البناء الوطنيّ للمؤسسات، وعن الهدم الإسرائيلي لكافة إمكانيات الإنتاج الفلسطيني في الزراعة والصناعة.. وهذا كلّه قبل التطرّق إلى العوامل غير المحلية، مما يتّجه إليه العالم عموماً من فردانيّة مطلقة، تعزل الإنسان عن المجتمع ولا تحرره فيه، بينما تبتلع فئة صغيرة جداً من الناس (المعهد الفدرالي السويسريّ للتكنولوجيا بحث 37 مليون شركة تجاريّة حول العالم ووجد أنّ 80 في المئة من هذه الشركات مرتبطة بـ 737 شركة فقط)، وهو ما يؤثّر بدوره على تصوّر الإنسان لوظيفته بالمجتمع.
"مثل الأجانب"
مع بداية العام الدراسي، اقتبس رئيس القائمة المشتركة (وهي اليوم الجسم التمثيليّ الأهم للفلسطينيين في الداخل)، بروفيسوراً عربياً عيّنه معهد "التخنيون" في عام 2013 مساعداً في "شؤون الأقليّات" لنائب رئيس المعهد. يكتب البروفيسور (الذي تدعوه الصحافة الفلسطينيّة "نائباً لرئيس التخنيون"، دون أن نجد لذلك أثراً في موقع المعهد ذاته) في صفحته الخاصّة محتفلاً "بالإنجاز" الذي حقّقه بدخول 550 طالباً عربياً إلى المعهد الإسرائيلي، ونسبتهم 25 في المئة من إجمالي الطلّاب. يُذكر بالمناسبة أنها نسبة الطلّاب للبكالوريوس، أما نسبتهم في الماجستير والدكتوراه فلا مصلحة احتفالية من ذكرها، فهي لا تتعدّى 4 في المئة. و "التخنيون" هو معهد إسرائيلي للعلوم التطبيقية ويُعدّ السبّاق أكاديمياً في إسرائيل، سجّل عدداً كبيراً من الإنجازات التكنولوجية والعلمية، حصل ثلاثة من باحثيه على جائزة نوبل، وتربطه شراكات بحثية مع كُبرى الجامعات حول العالم، ويُعدّ من المعاهد الإسرائيلية الأكثر صعوبة وتشدداً في التعليم. هذا جانب، أما الجانب الذي يُفضِّل البعض تجاهله فهو أن للمعهد في تاريخه وحاضره دورا مركزيّا في الصناعات العسكريّة الإسرائيلية، بما يعنيه ذلك بالنسبة لنا كفلسطينيين تحديداً، وما يتعلّق بالصناعة العسكريّة الإسرائيليّة وتجارتها لتغذّي أهوال العالم (مثلًا، تُثار في إسرائيل مؤخراً قضيّة دور الصناعة العسكرية الإسرائيلية في الإبادة العرقية في رواندا).
كان يُمكن لهذا الاحتفال الذي انتشر بمئات المواقع وصفحات فايسبوك أن يكون عادياً في سياق واقع فلسطينيي الداخل: لا جامعات فلسطينيّة في الداخل وإمكانيّات التعلّم الوحيدة هي إما الخروج من البلد (الآلاف يدرسون في الأردن ودول أوروبا الشرقية ـ غالبيّتهم العظمى تدرس الطب أو طبّ الأسنان أو الصيدلة)، أو التعلّم في الضفة الغربية كما بدأ يحدث في الأعوام القليلة الأخيرة (وهو تغيير مبارَك رغم إشكالاته العديدة، التي يجدر حلّها من خلال إصلاح التعليم العالي في الضفّة). ويترتب على هذه البدائل تكاليف ماديّة باهظة جداً تُقدّر بعشرات ومئات آلاف الدولارات، فيصبح التعلّم في الجامعات الإسرائيليّة اضطراراً لا مفر منه. لذلك، فإن دخول هذا العدد الكبير من الفلسطينيين إلى معهدٍ علميّ كان يُمكنه أن يُعدّ تغيّراً إيجابياً على الرغم من كلّ شيء.
فجأة، وفي الأسبوع ذاته، أصدر المركز الحقوقي "عدالة" رسالة إلى إدارة "التخنيون" تطالب المعهد بالتراجع عن قراره تشديد شروط القبول للطلاب العرب من خلال رفع العلامة المطلوبة بامتحان اللغة العبريّة للجامعات، معتبرين ذلك تمييزاً بحقّ الفلسطينيين. على الفور، أرسل "التخنيون" ممثله الناطق بالعربية ليواجه الحقوقيين. في مقابلة إذاعيّة، قال مساعد نائب رئيس التخنيون لشؤون الأقليّات، إن معطيات المعهد تدل على أن نسبة "الترسّب" (وهو تعبير لغويّ كرره الرجل، وهو غير موجود في الاصطلاحات الأكاديميّة باللغة العربيّة، شيء ما بين "تسرّب" و "رسوب") عند الطلاب العرب تعود إلى ضعفهم باللغة العبريّة التي تدرّس الجامعة بها "مثل الروس والطلاب الأجانب" يقول. مثل الأجانب.
نموذج التهميش الخالص
قد تكون "الإحصائيات" التي يتحدثون عنها في التخنيون صحيحة. لكنّها صحيحة مثل كل الإحصائيات الإسرائيلية التي تدْرس الفلسطينيين بمعايير"موضوعية وعلمية".. صحيحة بالنسبة لنفسها ومنهجية بحثها، على الورق. إذ تفشل، حين تتوقف عند حدود السياسة، في فهم المُعوقات البنيويّة والتربويّة الأعمق التي يواجهها الطلاب الفلسطينيون، والتي تتخذ، من جملة ما تتخذه، تعبيراً لغوياً. طلّاب يدرسون في جهاز تعليم يمكّنهم من إتمام 12 عاماً دراسياً دون أن يقرؤوا كتاباً واحداً غير كتب المدرسة. يواجهون "المقال العلمي" لأوّل مرّة، ذاك الذي تعتمد عليه الدراسة الأكاديميّة بمعظمها، حين يدخلون الجامعة لأوّل مرة. عشرات آلاف الطلبة لم يدخلوا في حياتهم مكتبة. نظام وظائفيّ يُجهّز الطلاب "للخروج إلى العالم"، فلا يتعامل مع نفسه على أنه عالم يُنتج فيه الأطفال، فيخرجون إلى الجامعات شابات وشبّانا دون أي إمكانيّة لفهم ماهيّة الحياة الأكاديميّة: الاجتماع مع الآخرين من أجل البحث وتطوير المعرفة.
المشكلة مشكلة لغة، يقول ممثلو "التخنيون"، ولا يفكرون حتى في أنّ مشكلة اللغة يُمكنها أن تُحل لو استثمروا أموالاً (من تلك التي يجمعونها من العالم بحجّة أنهم ديموقراطيّون) بترجمة الموادّ الدراسية إلى العربية أو بتعيين المزيد من المرافقين الأكاديميين الفلسطينيين. ويُصبح الحل بأن نزيد من تعليم العبريّة في المدارس (رغم أن تعليمها للفلسطينيين يبدأ بالصف الثاني!)، لا أن تلائم الجامعة نفسها للطلاب العرب. فينخفض حتى أدنى سقف للخطاب الحقوقي الذي يَعتبر الفلسطينيين في الداخل "أقليّة" أصلانيّة يجب أن تعترف بها المؤسسة وتلائم نفسها لها.. خاصةً أمام مؤسسة جبّارة ومهيمنة تتغطّى "بعلميّتها الشديدة" لتُبرر أي تمييز عنصري وتمنع في حرمها، أيضاً، أي تجمّع سياسيّ للطلاب.
أي إنتاج فرديّ للمعرفة أو أي شكل من أشكال نجاح الأشخاص سيبقى إشكالياً وشائكاً (وفي بعض الأحيان هداماً)، إن لم يرتبط مؤسسياً وبنيوياً بتحقيق الجماعة ذاتها
مشكلة لغة. نعم. لكنّ مشكلة اللغة هذه لا تُحل بدراسة المفردات العبريّة واجتياز امتحان اللغة. إنها مشكلة اللغة العميقة. فالجامعة، إذا ما اعتبرناها مجتمعاً بحثياً يلتقي فيه الناس لصناعة المعرفة لا لتلقّيها، غير حاضرة في اللغة التي نكتسبها في مدارسنا. يتحوّل المحاضِر إلى مُعلّم، بدلًا من أن يكون مرشداً للقراءة أو ممثلاً لتيّار معرفيّ يتجادل الطلاب فيه ليتقدموا في تعليمهم. بالنسبة لنا، في جهازنا التعليمي وتربيتنا المقموعة، فإن لغة إنتاج المعرفة هي العبريّة، أما العربيّة فهي حتى نُحافِظ على الهوية بمعناها المنقرض، لا بمعناها الحيّ والنابض. هكذا، يتحوّل الفلسطيني الذي يعيش في مدينة يختلط فيها اليهود والعرب، إلى طالبٍ "أفضل" لأنه أكثر اضطراراً لممارسة العبريّة، بينما يكون الطالب الذي عاش في قريةٍ جليليٍة إلى طالب "أضعف". بمعنى أن الاندماج في المركز الصهيوني والانكشاف له يتحوّل بذاته إلى تذكرة دخول إلى عالم "النجاح".
هذا نموذج كلاسيكي خالص لمعنى التهميش العنصري. وعلى صغر هذا المثال، فإنه يُصبح أساسيّاً جداً في فكرة "النجاح"، إذ يصبح "الدخول إلى النجاح" منوطاً بمعرفة "اللغة العبريّة": ليس نطقها وكتابتها، بل منطقها وبُنيتها وطبيعة حياتها. وهذه منطق وبنية وحياة، نُذكّر من نسي، بأنها منسجمة تماماً مع العقلية الصهيونيّة ومتماهية معها، بما تتضمّنه جوهرياً من نفي للوجود الفلسطيني.
هوس النجاح
واحدة من الإشكاليات الأساسية في سؤال "النجاح" هذا هي في ألا يعرف المجتمع ما الذي يحتاج إليه، ولا يعرف بالتالي ما "الجيّد" بالنسبة له. إن الصيرورة الطبيعيّة في المجتمعات تتأسّس على امتياز من تجاوبوا مع متطلبات الطبيعة والعصر. بمعنى أنه لكل فترةٍ حاجتها الماديّة. في فترة حروب تتحوّل العسكريّة امتيازاً ولقباً يسعى الجميع للوصول إليه، وفي فترة نهضة عمرانيّة يصبح المهندسون أصحاب امتياز. هذا، بالمناسبة ينطبق على حالات عكسيّة سيئة، يعيش فيها المجتمع فترة هدّامة وعنيفة فتدفع الناس نحو تقدير قوّة الجريمة، وتصبح امتيازاً فيسعى الناس إلى مرتبتها، وهذا يحدث أيضاً، ويتمثّل بالانتشار الهائل للسلاح الذي تحوّل تعبيراً عن مكانة اجتماعية. لكنّ الحالة الأكثر جدلاً هي حين لا يعرف المجتمع ما الذي يريده. ويصبح النجاح، بالتالي، غير مرتبط بتلبية الحاجة الماديّة، بل أن يكون هدفاً بحدّ ذاته.
الأكيد أن مسألة "النجاح" هائلة، وتحتاج إلى تفحص كثير وطويل لدراسة التشعّب العظيم لجوانبها ووجوهها. وهي قضيّة فيها ما يكفي من الإمكانيات لتتحوّل إلى مجال بحث بحدّ ذاته، لما ترتبط به من سوسيولوجيا وسياسة ولغة واقتصاد. لكنّ الأهم في كل هذا هو تذكّر عامل واحدٍ: أن أي إنتاج فرديّ للمعرفة أو أي شكل من أشكال نجاح الأشخاص سيبقى إشكالياً وشائكاً (وفي بعض الأحيان هداماً، حيث يتطلّب الوقوف بفظاظة وعدوانية ضد المؤسسات الوطنيّة للدفاع عن المؤسسات الصهيونيّة، مثلما حدث في قضية التخنيون)، إن لم يرتبط مؤسسياً وبنيوياً بتحقيق الجماعة لذاتها.