ليس الموضوع هو إيران، حبها أو كرهها، تأييدها أو مناهضتها.. وكل هذه خانات لمواقف مشروعة حيال النظام الايراني، طبيعته أساساً والسياسات التي يتّبعها هنا أو هناك.. يمكن للناس - أفراداً وجماعات - تبني ما يشاؤون منها وبالنسب التي يشاؤون.
ولكن أن يعتبر ترامب مثلاً نفسه قيّماً شرعياً على العالم بأسره هو المشكلة التي لا يبررها اعتبار قوة الولايات المتحدة. الرجل يمنح اسرائيل القدس بالضد من الإجماع العالمي في الشأن وقرارات الشرعية الدولية (وهي بالأصل متهاودة، تتجه الى خطوط التسويات باكثر السبل يسراً ومراعاة لتوازنات هي في نهاية المطاف تعبير عن مصالح القوى المهيمنة، فلا تعتمد إذاً وبالأصل ميزان المبادئ والحقوق). وهو يأتي بعد ذلك ليصنّف الانظمة التي لا تروق له في انحاء العالم قاطبة، ويعتبر رأيه المرجع والحكم، بفجاجة بدائية غالباً ما تثير الضحك أو السخرية العامين، والتسلية أحياناً. ولكنه لا يأبه كثيرا لذلك، وهو قابع في جزيرته الكبيرة هناك التي يفصلها عن العالم المحيطان العملاقان. وحين يتظاهر ملايين الفتية والشباب الامريكان ضد اباحة حمل السلاح القاتل (المباح بامعان لصالح احتكارات صناعته والاتجار به) يعلن هو أنه "فخور بالشباب الامريكي الذي يحمل السلاح كحق دستوري"، فيُظن أن أصمٌ أو أنه هنا أيضاً لا يأبه بناسه، وقد أحاط نفسه بأعتى رموز اليمين المتطرف، مختاراً أن يكون رئيساً إيديولوجياً لفئة من الامريكيين ومدافعا عن مصالحهم بوجه الآخرين من أقرانهم.
ولكن فصاحة ترامب لا تذهب أبعد من ذلك. وحين يتكلم عن إيران التي يهدد بالانسحاب من الاتفاق النووي معها - وهو اتفاق دولي وقعه في 14 تموز /يوليو 2015 ممثلو الدول الخمس دائمة العضوية في الامم المتحدة، أي من يقال لهم "القوى العظمى"، زائد المانيا، بعد 13 عاماً من المفاوضات الشاقة - فهو يقول ما يشاء بهذا الصدد، ويعتبر الاتفاق "سيئاً وبنيته وأسسه سيئان"، ما يمثل إضعافاً لصدقية بلاده التي يُفترض بممثليها احترام توقيعاتها بغض النظر عن توالي الأشخاص، وهو أحد المبادئ الدستورية العالمية الأساسية. أما من هو - طبعاً! - أشد فصاحة من ترامب، فالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي يبدو أنه يتشاطر على الرئيس الامريكي وقد قرر معاملته كما يُعامَل ولد صغير مدلل وأحمق يمكن استمالته بالمسايرة. وما بين الجد والهزل، ترتسم صورة بائسة لأحوال العالم تنذر بأشد العواقب خطورة. وماكرون، كإبن بار لمكان يتميز بثقافته العريقة، يقول عن إيران: "كنا محقين في اعتبار التغيير لن يأتي من الخارج بما يخص إيران، بل من الشعب الايراني نفسه، ودورنا أن نكون هؤلاء الحرس اليقظين والحريصين الذين عليهم، من حيث يقفون، التأكد بأن أياً من حقوق الايرانيين لا تُنتهك. وبهذا الصدد فسنكون يقظين وبلا تسامح!".
يا سلام!! تصوروا أن يخرج غداً الرئيس الايراني روحاني مثلاً فيقول الكلام ذاته بخصوص حقوق الفرنسيين المنتهكَة، فيما هم يتظاهرون بمئات الالوف ومنذ عدة أسابيع، طلاباً وعمالاً وموظفين (كما كان يفعل الايرانيون مطلع العام، حين قال ماكرون رأيه ذاك).. وكما حدث حين قُلب نظام صدام حسين بحرب أمريكية بريطانية مدمرة تطلّب تنفيذها سنوات طويلة، بينما كانت القوى التي تديرها تؤكد أن "غايتها هي القضاء على اسلحة الدمار الشامل وليس تغيير النظام"، وكما حدث بعد تلك الحرب من انقلاب السحر على الساحر، فإذا بالمخططين الجهابذة يفشلون في كل شيء، وتتسبب سياستهم الرعناء بفوضى مرعبة وبؤس لا وصف لهما لبلاد الرافدين، وبولادة "داعش"، وبتمدد النفوذ الايراني في العراق والمنطقة (ولو أنهم باعوا في الاثناء الكثير من السلاح في المنطقة، لكننا لم نزل نفترض انهم يمثلون سلطات سياسية عالمية وليسوا مجرد باعة).. كما في هذه الحالات السالفة، هناك خطر جدي بأن يتكرر السيناريو هنا مع فوضى أعظم لو تمادى هذا المنطق، ولو اتبع القوم رغبات محمد بن سلمان الذي قال فيه مسؤول إسرائيلي بانه "أحد الثوريين الكبار بالشرق الاوسط"!
الرئيس الفرنسي يساير ترامب فيدعو الى تعديلات في الاتفاق النووي مع إيران، من دون أن يقيس مبلغ الاستعداد الايراني لذلك، ومبلغ رفض المحور الروسي والصيني له، والنتائج التي ستترتب على هذه الحال، والتي يرجّح فيها أن يزداد تبلور هذا المحور واقتراب إيران منه..
من لا يرى في مواقف من هذا القبيل تجاه إيران إلا حسابات الصراعات والفوائد الآنية يكون فعلاً قصير النظر. وهذا ليس أبداً تبريراً او تخفيفاً من سوء النظام الايراني (أو السوري) وقبلهما سوء نظام صدام حسين.
ذلك أن هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم "حراساً يقظين وغير مستعدين للتسامح" إنما يعبرون عن منطق كولونيالي حتى ولو لم تعد سلطاتهم قادرة على ممارسة هذه الكولونيالية. وهنا المهزلة!