مع أن غاية حركة الانتفاضة التي انطلقت في 2011 في ليبيا كانت "استعادة" الحياة الدستورية، فإن أهم إشكاليات المرحلة الانتقالية التي دخلت سنتها السابعة هي تجاهل الموروث الدستوري.
لقد عانت ليبيا من "انقطاع دستوري" لما يزيد على أربعين سنة. فكان من الطبيعي أن يكون تجاوز ذلك هو عنوان المرحلة الانتقالية التي بدأت مع صدور أول إعلان دستوري في آب/ أغسطس 2011. وكان المراد منه أن يكون مرجعية دستورية أساسية يمكن البناء عليها وأن تكون أساساً لاستحداث أجسام عامة جديدة وتحديد صلاحياتها. وكان يفترض بالمرحلة الانتقالية تهيئة الساحة لدخول مرحلة الاستقرار النهائي من خلال صياغة مسودة الدستور النهائي للاستفتاء عليه ثم إقراره. ومع أنه من الطبيعي لأي مرحلة انتقالية أن تتضمن "مراجعة" للواقع الدستوري الذي سبق الانقطاع للاستفادة منه، فقد لوحظ أنه مع بدء المرحلة الانتقالية برزت محاولة لبناء واقع دستوري جديد وكأن البلاد تتحرك من نقطة الصفر وليس لها تاريخ أو موروث في الصدد. كما لوحظ وجود إصرار من قبل عدد من الفاعلين المحليين والخارجيين على الضغط باتجاه فرض حلول دستورية ومؤسسية "مُعلّبة".
لا شك أن الليبيين قد خبروا فكرة الدستور بصور مختلفة. لكن متى نضجت فكرة الميثاق الوطني المنصب على العلاقة بين الأقاليم الثلاثة، متى نضج التوافق الوطني الذي نستظل بظله حتى اليوم، متى حصلت أول عملية دستورية حقيقية أو أول مخاض دستوري، وأبصر أول دستور النور، وبدأ المجتمع يعيش في ظلّه.. متى أصاب الليبيون وأخطأوا وتعلموا من الإصابة والخطأ في تطبيق الفكرة الدستورية، وتأسست كليات القانون لأول مرة، وبدأت دراسة القانون الدستوري في تلك الكليات، وبدأت تتكون نخبة من النواب المُشرعين والقضاة والمحامين الخبراء بالحقل. ثم متى اكتمل إرساء المؤسسات الدستورية كالقضاء والتعليم والاقتصاد والجيش والشرطة وديوان المحاسبة وبقية المؤسسات المدنية، وتكونت نخبة العاملين بالأجهزة الحكومية؟ ومتى اكتسبت شرعية وقبولاً في المجتمع وبين المواطنين؟
لقد حصل ذلك خلال مرحلة تأسيس الدولة الوطنية التي بدأت مع نهايات الحرب العالمية الثانية. وهي كانت امتداداً طبيعياً لمرحلة التخلص من السيطرة الخارجية التي وقعت خلال النصف الأول من القرن العشرين. وقتها جرت عملية بناء مصالحات وطنية أفقية أولاً ثم رأسية، وانتهت إلى تفاهم ميثاقي. وقد كان من بين ما عبر عن ذلك "ميثاق الحرابي" الذي أُبرم في عام 1946. وكان جوهر الميثاق إرجاء تسوية المنازعات المحلية على مستوى العلاقة بين الأفراد والقبائل والمدن حتى قيام الدولة، وقد تضمن ذلك التأكيد على عدم سقوط حقوق الأفراد موضوع تلك المنازعات. ويعتبر الميثاق تجسيداً لفكرة إعطاء الأولوية للمصلحة العامة ولعدم بناء المجتمع والدولة على المصلحة الخاصة، الجهوية والفردية. وقد كان الميثاق حجر الزاوية الذي ارتكزت عليه جهود صياغة دستور دائم للبلاد بعد ذلك ببضعة أعوام. هذ التوافق هو الذي جعل المجتمع الدولي يدرك أنه لا يمكنه المضي قدما في جحد حق ليبيا في تأسيس دولتها فصدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 289 في 21 تشرين الثاني / نوفمبر 1949 الذي تضمن الاعتراف باستقلال ليبيا، والذي جاء تتويجا لتفاوض دبلوماسي وضغوطات وإقناع. وفي 1951، انطلقت أول عملية دستورية باشرتها جمعية وطنية (هيئة تأسيسية)، لينتظم الليبيون كمجتمع وطني تُسَيِّر شؤونَه دولةٌ تدار وَفق نظام ملكي اتحادي، واستند اجتماعها السياسي إلى "عقد اجتماعي" (دستور) تمخضت عنه عملية توافقية. وقد ضمت الجمعية الوطنية التي باشرت العملية الدستورية ممثلين عن قوى المجتمع، وعقدت اجتماعاتها بحرية وصاغت مسودة للدستور. وجرى إقرار الدستور في بنغازي في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1951 وتقديمه للملك قبل نشره بالجريدة الرسمية. كما أعلن الاستقلال الرسمي في 24 كانون الاول / ديسمبر 1951.
كانت فكرة صياغة الدستور في حد ذاتها من بنات أفكار قوى المجتمع وممثليه، ولم تكن من بنات أفكار الملك. وكان الدستور صناعة أيدي أبناء ليبيا إذ شاركت مختلف القوى في صياغة مواده. أي أن الدستور لم يأت نتيجة إملاء من جانب الملك أو كتنازل منه بعد الثورة عليه. كما صدر الدستور باسم ممثلي الشعب ولم يصدر باسم الملك. وقد تعامل الدستور مع الملك تعاملا طبيعياً ولم يمنحه وضعاً فوقياً. وتضمن أحكاما صانت الحقوق الأساسية والحريات، وحرمة المسكن والمُلكية، والمساواة وعدم التمييز على أي أساس من الأسس، وحق النساء في التعليم.
ليبيا تغرق في الفوضى
27-08-2014
ولكن تجاهل هذا الموروث الدستوري هو واحد من العوامل الرئيسة التي أدت إلى تأزم المرحلة الانتقالية على جميع المستويات. لقد شهدت المرحلة الانتقالية عجزاً عن إدارة حوار مؤسسي علمي رصين بشأن أيٍ من الموضوعات الرئيسية. مثلا، شهدت المرحلة عجزا عن إدارة حوار بشأن السؤال: هل تنتظم ليبيا وفقا لنظام اتحادي؟ ليس هذا فحسب، بل ألقيت تهم التخوين جزافاً على من يطرح هذا الموضوع. هذا على الرغم من أن البلاد قد سبق لها أن انتظمت وفقاً لنظام اتحادي. كما شهدت المرحلة عجزاً عن إدارة حوار بشأن السؤال: هل تعتمد البلاد نظاما مركزياً أم غير مركزي أم تمزج بين النظامين، وماهي جرعة المركزية المطلوبة وجرعة اللامركزية المطلوبة. كما شهدت المرحلة الانتقالية احتكارا من جانب القوى السياسية المهيمنة للعملية الدستورية ورفضا لتصميمها على أسس تشاركية تسهم في إدارتها القوى المجتمعية وأفراد الشعب. والاخطر أنه جرى تأسيس مؤسسات بناء على محاصصة القوى السياسية: لم تؤسس على نحو يجمع بين استلهام طبيعة المجتمع وحاجاته وبين الارتكاز على التسويات المبرمة بين القوى السياسية. وقد انعكس ذلك في الخلل الشديد الذي اعترى صياغة اختصاصات بعض المؤسسات التي جرى استحداثها خلال المرحلة الانتقالية. كما شهدت المرحلة فشلا في صياغة حلول دستورية مؤسسية تنهي مشكلة فوضى السلاح وتضمن بناء مؤسسات أمنية مستقرة.. وإخفاقا في إجراء حوار رصين واتخاذ إجراءات تحقق مفهوم التضمين والتمثيل المتوازن للمكونات الثقافية المتنوعة في مؤسسات الدولة، والاعتراف بالمقومات الثقافية الخاصة بجميع مكونات ليبيا ولغاتها وتقاليدها، وشهد تعاملا متطرفا مع الهويات وانغلاقاً على مستوى جميع الهويات بما في ذلك الهوية القبلية والمدينية والإقليمية والأيديولوجية والثقافية، وتأزماً في العلاقة بين كل هوية من هذه الهويات والهوية الوطنية الجامعة. حتى البعثة الأممية التي أسسها المجتمع الدولي، UNSMIL أخفقت في إيجاد قيمة مضافة جذرية وهو ما انعكس في تغيير رئاستها عدة مرات.
من الأسباب الاساسية التي أدت إلى هذه الإخفاقات العجز عن بناء قدر كاف من "التوافق"، والإصرار على المغالبة. ولا يمكن بناء توافق دون دراسة ذاك الذي جرى "بناؤه" قبل ولادة دستور 1951 بسنوات.
فن الحرب: تفكيك أوصال ليبيا
12-02-2014
إن أهم أساس يجب أن تتأسس عليه جهود استعادة الحياة الدستورية هو التخلص من التصور المشوش الذي مفاده أننا نبدأ من نقطة الصفر.. ليس المطلوب محاكاة الواقع الدستوري السابق بطريقة عمياء، بل اكتشاف الجذور الدستورية اكتشافاً عميقاً وواسع النطاق. وقد يتضمن ذلك "إحياء" بعض الصيغ الدستورية، وقد يتضمن "توليد" صيغ دستورية جديدة، وقد يتضمن "تطوير" أخرى. وهذه المقاربة هي التي تجعل مادة "التاريخ الدستوري" أساسية في جميع مناهج دراسة القانون في مختلف أنحاء العالم. وهي تعد كذلك لأن مفهوم "الحياة الدستورية" مفهوم عابر للأجيال، و"التواصل الدستوري" من شروط بناء حياة دستورية متوازنة.