الحوار في تونس: الاستقواء بالنظام القديم

انعقاد الحوار الوطني أمر ايجابي بذاته لأنه يضمن استمرار عملية «الانتقال الديموقراطي» (وهي العبارة الأثيرة لدى الساسة التوانسة). إلا انه من المفيد القيام بتقييم نقدي لأثر الأزمة السياسية على المسار الثوري، حتى تعين التحديات التي يواجهها التونسيون، بهدف إعادة موضعة مطالب الثورة في المركز من الاهتمامات السياسية.اللاعبان الأساسيان:النهضة ونداء تونسالاغتيالات
2013-11-13

هالة اليوسفي

باحثة وأستاذة علم الإجتماع في جامعة دوفين - باريس، من تونس


شارك

انعقاد الحوار الوطني أمر ايجابي بذاته لأنه يضمن استمرار عملية «الانتقال الديموقراطي» (وهي العبارة الأثيرة لدى الساسة التوانسة). إلا انه من المفيد القيام بتقييم نقدي لأثر الأزمة السياسية على المسار الثوري، حتى تعين التحديات التي يواجهها التونسيون، بهدف إعادة موضعة مطالب الثورة في المركز من الاهتمامات السياسية.

اللاعبان الأساسيان:النهضة ونداء تونس
الاغتيالات السياسية والأعمال الإرهابية تهدفان عادة إلى خلق حالة من الإرباك وخلط الأوراق في اللعبة السياسية، وإثارة المشاكل لدى الطبقة السياسية الحاكمة ولدى الطبقة المحكومة على حد سواء. ونظراً الى صعوبة تحديد صنّاع هذه الجرائم، وبانتظار أن تأخذ العدالة مجراها، فمن المفيد التوقف عند التداعيات المباشرة لها. كانت الساحة السياسية
في تونس عشية اغتيال شكري بلعيد تمتاز بوجود ثلاثة تيارات سياسية متصارعة، يرتكز كل منها على شرعية متنافسة. أولاً، «حزب النهضة» المسيطر على التحالف الحاكم الذي يضم علاوة عليه «حزب التكتل» و«المؤتمر من أجل الجمهورية»، وهو يتشبث بشرعية الانتخابات من أجل الحفاظ على السلطة. ثانياً، حزب «نداء تونس» المعارض، وهو مزيج من الليبراليين، ورجال النظام السابق، بقيادة باجي قائد السبسي (وزير سابق في عهد بورقيبة)، وهو الحزب الأقوى في التحالف السياسي «الاتحاد من أجل تونس» (يضم أيضاً «المسارالاجتماعي» و«الحزب الجمهوري»)، وهو منخرط في مواجهة مباشرة مع النهضة، ويطالب بـ«التوافق الوطني» لكي يعود الى الاهتمام بإدارة شؤون البلاد. وأخيراً «الجبهة الشعبية»، التي تضم تحالفاً واسعاً من اليسار الراديكالي، أبرز من فيه «حزب العمال» و«حزب الوطنيين الديموقراطيين»، و«القوميين العرب». وتقدم الجبهة نفسها كصوت ثالث، وقوة بديلة للثنائية القطبية المتمثلة بالنهضة ونداء تونس، وكقوة ثورية من دون تقديم مشروع ورؤية واضحين لما تقترحه كبديل سياسي واقتصادي. وإذ لم تحل هذه المعركة السياسية في البداية دون استمرار مختلف الفرقاء في عملية صوغ الدستور وتحضير رزنامة الانتخابات المقبلة، فإن النتائج المباشرة لمختلف الأزمات السياسية التي عصفت بالبلاد بعد حصول عدد مع الأعمال الإرهابية وعمليتي الاغتيال هي: أولاً تأجيل وضع مشروع قانون العدالة الانتقالية، وتجميد الملفات المتعلقة بالشهداء والجرحى خلال الثورة. بالتوازي مع ذلك، جرى اعتياد على عودة المسؤولين السابقين في النظام القديم الى الحياة السياسية. فانضم جزء منهم الى أحزاب «الترويكا»، وجزء آخر إلى المعارضة الليبرالية. فعلى سبيل المثال، انضم الأمين العام السابق للتجمع الدستوري المنحل محمد غرياني المنحل محمد غرياني إلى حزب نداء تونس، فيما عين كمال مرجان وزير الخارجية السابق خلال حكم بن علي (حدث ذلك في 27 تشرين الأول/أكتوبر) عضواً في «لجنة المسار الحكومي» المكلفة بتقديم اقتراحات الى هيئة الحوار الوطني بأسماء الأشخاص الذين قد يشغلون مناصب في الحكومة الجديدة. ثانياً، أدى التحالف الثنائي بين الجبهة الشعبية وحزب نداء تونس، في إطار جبهة الإنقاذ الوطني، لمواجهة النهضة عقب اغتيال محمد البراهمي، الى تكريس القطبية السياسية، واضعاً كلا من النهضة وحزب نداء تونس كلاعبين رئيسيين في عملية الانتقال السياسي. وأخيرا فلا بد من ملاحظة اختفاء المطالب الاجتماعية والاقتصادية للثورة من السجال السياسي. فحين يشار إلى الأزمة الاقتصادية للبلاد، يظهر أن التحدي الأهم يبقى طمأنة المستثمرين، (وفق ما عبرت عنه بوضوح وداد بوشماوي الأمين العام لاتحاد أرباب العمل) التي قالت في مؤتمر صحافي في 28 أيلول/سبتمبر 2013 إن «الأزمة الاقتصادية في البلاد شديدة الخطورة، وضمان استعادة الاستثمارات مرهون بتوفير أجواء من الأمن والاستقرار».
الحوار الوطني التونسي المنطلق اليوم يسمح للنهضة، من خلال الاحتفاظ بالجمعية الوطنية التأسيسية، بتجنب خطر الخروج من السلطة على غرار السيناريو المصري. من جهتها، تمكنت المعارضة وعلى رأسها نداء تونس، من انتزاع استقالة الإسلاميين من الحكومة، مما يتيح لها العودة إلى السلطة من خلال ما يسمى بالحكومة «المستقلة» الجديدة، حيث ستكون موازين القوى أفضل لها. ولكن السؤال الأساسي هو: ماذا نال الشعب التونسي نتيجة لذلك كله؟

الشعب التونسي رهينة مكافحة الإرهاب

الهيئات المختلفة التي أنتجها الرباعي (الراعي للحوار الوطني)، كلجنة خبراء صوغ الدستور، أو لجنة تشكيل الحكومة، علاوة على أسماء الشخصيات التي تتألف منها هذه اللجان، تذكٌر بشكل كبير بـ«الهيئة العليا للانتقال الديموقراطي والإصلاح السياسي وتحقيق أهداف الثورة» التي حضّرت لانتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2011. هذه اللجان، وإن كانت تضمن استمرار الحوار الوطني، إلا أنها تساهم بنقل النقاش السياسي إلى خارج الجمعية الوطنية التأسيسية. وعلى الرغم من كل عيوبها، فهذه الهيئة هي الوحيدة التي تمثل إرادة الشعب. إذاً مرة جديدة، تم تكريس وصاية «الخبراء» والنخبة السياسية على تلك الإرادة. والشعب الذي جرد إلى حد كبير من إرادته، يجد نفسه رهينة مزدوجة: رهينة الصراعات السياسية للاستيلاء على السلطة، ورهينة مكافحة الإرهاب بينما هو المستهدف الأول منه. في مناخ من انعدام الأمن المقلق، ومع تجدد الأعمال الإرهابية، علت أصوات السياسيين الداعية إلى وحدة الشعب لمواجهة الإرهاب، مسجلة استعادة مفاهيم النظام والأمن كأولويتين وحيدتين، مما يذكر بالمعزوفة القديمة لحقبة بن علي. وهكذا تصبح أية محاولة نقدية، وأي تعبير عن الاختلاف «عدم نضج» في التعامل مع الأحداث أو حتى أكثر من ذلك، ممارسات «غير وطنية». ومن سخرية القدر أن يعاد تأهيل الأجهزة الأمنية، ممثلة بالجيش ووزارة الداخلية، والتي ثار عليها التونسيون في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، بوصفها الضمانة الوحيدة لعملية «الانتقال الديموقراطي». ولتتويج ذلك كله، أصدرت النقابة الوطنية لقوى الأمن الداخلي، بياناً في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2013، تطالب فيه بشكل سافر، بالإفراج عن العناصر الأمنية المبعدة التي تمت محاكمتها بعد الثورة، سامحة لنفسها بإضافة «مع كل الاحترام لعائلات الشهداء». كيف وصل التونسيون إلى هذا الوضع؟

من يتحمل المسؤولية؟

عند اندلاع كل أزمة، تنفلت الاتهامات والعواطف في كل اتجاه. وعلى الرغم من وجود إجماع في تونس على أن الطبقة السياسية برمتها تتحمل مسؤولية الأزمة السياسية في البلاد، إلا أن المسؤوليات نفسها غالباً ما تخضع لتراتب هرمي. فتحمِّل المعارضة حكومة «الترويكا»، وحزب النهضة بالتحديد، المسؤولية الاولى عن الفوضى الحالية، بذريعة وجودهم في السلطة. وبينما تتهم الحكومة المجموعات «الجهادية» بتنفيذ عمليات الاغتيال، لا ينجو حزب النهضة من وصمه بانعدام الكفاءة والتراخي في التعامل مع الحركات السلفية. من جهته، يتهم حزب النهضة المعارضة، متمثلة بحزب نداء تونس وحلفائه، بالتآمر على الثورة، وبأن غايتهم الأولى هي إخراج النهضة من السلطة. إن اعتماد قراءة للازمة السياسية انطلاقا من مقارنة درجات المسؤولية يحمل مخاطر قصر النظر حول التحديات الحقيقة لهذه الأزمة. فسواء أكان عن سابق إصرار وتصميم أو عن غير قصد، هناك بعدان هامان غائبان عن النقاش السياسي الدائر في البلاد. أولاً، الدور الذي يلعبه النظام القديم، ليس بالمعنى الكلاسيكي الذي يحصره بالحزب الحاكم السابق المنحّل، بل كشبكة رجال أعمال وسياسة وقضاة وأمن، من رجال شرطة ومخبرين، الذين شكلوا المنظومة السياسية والاقتصادية التي حكمت البلاد لأكثر من 50 عاما. هؤلاء جميعاً، غير راغبين بأن تهدَّد مصالحهم ولا نفوذهم، وهم مستمرون وبقوة كبيرة في مقاومة كل محاولات التغيير. تصاعُد العنف شكل عاملاً مساعداً، دفع معظم التيارات السياسية ـ سواء أكانت مصيبة في ذلك أم مخطئة ـ إلى اختيار التلاؤم والتحالف مع النظام بدلاً من مواجهته. وأكبر دليل على ذلك هو دفن ملف العدالة الانتقالية، وخوض معركة الوصول إلى السلطة التي انتهجها كل من النهضة ونداء تونس بواسطة استمالة شبكات نفوذ النظام القديم هذه، على مستوى أجهزة الدولة. بينما الجبهة الشعبية، الضحية الأولى للاغتيالات السياسية، لم تثق بنفسها وبالشعب التونسي بما فيه الكفاية، وتنازلت عن معركتها في الدفاع عن مطالب الثورة وفي مواجهة النهضة ونداء تونس معاً.
هناك ثانياً التدخل الخارجي الذي حينما يلمّح له في الخطاب السياسي، فإنما ينحصر ذلك في فضح شبكات تهريب الأسلحة التي تغذي الإرهاب، أو في الترحيب الحار بمباركة القوى الدولية لإعادة إحياء الحوار في تونس. وخلا ذلك فلا يوجد أي تحليل جدي لأثر حرب النفوذ بين مختلف القوى الخارجية على المنطقة العربية، وتأثيرها في اللعبة السياسية في تونس.

في الخلاصة، فإذا كان العالم كله يأمل بأن ينقذ الحوار الوطني تونس من الخطر الإرهابي، وتجنيب البلاد حرباً أهلية، من خلال مساعدة القوى السياسية على الوصول إلى تسويات تحفظ مصلحة البلاد، بل وحتى توفر التشارك بحكم البلاد، يبقى السؤال المثار هو: هل سيشكل أي تفاهم يستند إلى المصالح الحزبية فحسب، ضمانة كافية على المدى الطويل للتوصل إلى نظام حكم جديد في تونس؟ ومن سيتمكن من إنقاذ الثورة التونسية؟ المفارقة أن الجواب على هذين السؤالين لا يقع من جهة الوحدة أو التجانس المفترض للشعب التونسي، بل في خطوط التفارق والانشقاق التي تخترق كل التيارات السياسية، وتتمحور حول قضيتين أساسيتين: العدالة الانتقالية، أي «المحاسبة»، والمسألة الاجتماعية وهما القضيتان اللتان تتبناهما الحركات الشبابية مثل حركة «جيل جديد» وحركة «شباب الكرامة»، أو جمعيات مثل «اتحاد أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل» و«جمعية عائلات شهداء وجرحى الثورة». إن قدرة المدافعين عن هذا الخط السياسي على تنظيم أنفسهم، وعلى تأكيد وجهة نظرهم، وعلى الإجابة عن هاتين المسألتين هي ما سيحدد مستقبل الصيرورة الثورية التونسية.
           

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس على حدود الشرعية الديمقراطية

كشفت التجربة التونسية في السنوات العشر الأخيرة أن "المنظومة" تتمتع بقدرة غير متوقعة على امتصاص الصدمات، وأن النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة تجد دوماً الوسيلة لكي تتأقلم مع التشوهات والمسوخ الذين...