تراجع الاوضاع الامنية في العراق ألقى بظلاله على الحياة الاجتماعية، فانعكست تأثيراته على الحالة النفسية للعديد من المواطنين، ودخل العنف الاطار الاسري فسجلت مراكز الشرطة في العاصمة جرائم قتل داخل الاسرة، اكثرها بشاعة تلك التي حصلت في منطقة «المعامل» بأطراف بغداد، ارتكبها شاب بإطلاق النار على افراد اسرته واحدا بعد الآخر فقتل زوجته وابنه الرضيع، واخاه وزوجة أخيه، الذين كانوا ينامون على سطح الدار، وقتل زوجة والده ولم ينج من هذه المجزرة غير ابن اخيه الصغير الذي أصيب بطلقة واحدة في يده وهرب إلى الجيران. وظهر في ما بعد ان القاتل يعاني ازمات مالية شديدة اثرت في نفسيته، وبعد ان ارتكب جريمته ذهب إلى اقرب مركز شرطة معترفا بجريمته.
وفي حادث آخر تشاجر رجل مع زوجته بالايدي، وتطورت المعركة لتصبح بالسكاكين. وحين قامت الزوجة بجرح زوجها، اخرج بندقية أطلق منها عيارات كثيرة على جسد الزوجة. ولأن بناته الثلاث كن يرغبن بصده عن هذه الجريمة، اعتبر الأب موقفهن متحيزا لوالدتهن، فوجه فوهة البندقية إلى اجسادهن وقتلهن، وكانت احداهن طالبة جامعية. ولم يبق من هذه العائلة سوى الابن الذي كان غائبا ساعة الجريمة. الاب الآن في السجن ، وأحمد، ابن الثامنة عشرة، يعيش وحده في المنزل المهجور.
في حي آخر من العاصمة، واثر مشادة كلامية بين شقيقين، استخدم الاكبر مسدسه، وسدد عدة رصاصات إلى رأس أخيه الأصغر. وبعد ان قتله طلب الاب عدم كشف الجريمة وتضامن معه افراد العائلة، فوضعوا جثة ولدهم في كيس ودفنوه في حديقة المنزل. ووضعوا في مكان دفنه براميل واكياس نفايات للتمويه، وقالوا لأقاربهم ان ابنهم سافر للعمل في احدى المحافظات. لكن شجاراً حصل داخل العائلة جعل الاب يذهب إلى مركز الشرطة ليبلغ عن الحادث بعد مرور شهرين على حصوله.
الباحثة بالعلوم الاجتماعية، سميرة حميد، تعزو انتشار ظاهرة القتل داخل النطاق الاسري الى تردي الاوضاع المعيشية والامنية: «أدى تفشي الفقر بين معظم الشرائح الاجتماعية وانتشار الأسلحة واستخدامها من قبل الجميع، فضلا عن العقلية الانفعالية التي بدأ يتصف بها المواطن العراقي نتيجة احداث العنف التي ما زالت البلاد تعيش وسطها، والشعور بفقدان الأمن، الى ارتكاب جرائم داخل الاسرة الواحدة». وهي ترى أن «المسؤولية تقع على الحكومة في السعي لحل مشاكل البطالة والسكن، وإنشاء مشاف للمصابين بالامراض النفسية، للتقليل من الجرائم التي تقع حولنا كل يوم». وتحمِّل الباحثة الجهات الرسمية مسؤولية العناية بقطاع الشباب، «فلو كانت الجهات الرسمية على مساس مباشر بالشباب لتوصلنا الى امكان اشاعة ثقافة التسامح ونبذ العنف من خلال فتح المنتديات الثقافية والترفيهة». وطبقا لتقارير منظمات دولية، فإن عشرات العراقيين يقتلون أسبوعيا في العراق نتيجة أعمال القتل والجريمة المنظمة.
وفي دراسة اعدها قسم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة بغداد استندت في معلوماتها الى ما تسجله مراكز الشرطة في جانب الرصافة من العاصمة خلال العام الماضي، تبين ان شخصا واحدا يقتل أسبوعيا بجرائم سرقة وسلب في ذلك الجزء من العاصمة، تحصل غالبا في أحياء متفرقة معروفة بتدني المستوي المعيشي لسكانها.
الجانب البشع الآخر من الكارثة تعكسه البطالة المتفشية بين الاشخاص القادرين على العمل. فقد تضاعفت نسبة البطالة قياسا بزمن النظام السابق من 30 الى 60 بالمئة. وفي مؤتمر عقد في تشرين الأول/اكتوبر الفائت في العاصمة بغداد، بمبادرة من منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، سجل أن نسبة العاطلين عن العمل من متخرجي المعاهد والجامعات العراقية تبلغ 80 في المئة، وسط غياب أي اكتراث حكومي بالتصدي للأمر أو البحث عن سبل لمعالجته، فضلا عن انحسار نشاط القطاع الخاص، الذي إن وجد فهو غير ملتزم بتطبيق قوانين العمل. فالاستغناء عن خدمات العاملين يتم بطريقة كيفية من دون ان تتوفر لهم أي حماية قانونية.
مراكز الرعاية الاجتماعية تشهد يوميا طوابير طويلة. ويقدر عدد المستفيدين من هذا النظام الذي تتولاه وزارة العمل والشؤون الاجتماعية 478 الف شخص في العاصمة بغداد وحدها يتقاضون راتبا شهريا ثابتا يبلغ 125 الف دينار (ما يعادل مئة دولار)، تسعفهم في مواجهة متطلبات البقاء على قيد الحياة. تضم تلك الطوابير كل الفئات، من الشيوخ نساء ورجالاً، والاطفال فضلا عن الشباب العاطلين. لكن بوصول آفة الفساد الى تلك المراكز، أغلقت ابوابها مطلع العام الحالي بعد اكتشاف عشرات الآلاف من الاسماء الوهمية تتقاضى مبالغ الرعاية في محافظات بابل والديوانية والنجف وكربلاء والمثنى. فقرر مجلس الوزراء في شهر شباط الماضي ايقافها لحين تشريع قانون الضمان الاجتماعي، وهو واحد من المشاريع المعطلة داخل مجلس النواب.
وعلى الرغم من التزام المحاكم بقرار الغاء العمل بالقوانين العشائرية، الذي صدر بعد ثورة 1958، إلا أن العشائر ظلت تعتمد ما يعرف بـ«السنن» في تسوية الخلافات بين المتخاصمين. وكان الكثير من القضايا لا يصل الى المحاكم. واثناء مناقشة قانون العفو العام في مجلس النواب الحالي، هناك من دعا الى اللجوء الى «الفصل» العشائري (أي التسويات التقليدية) لإطلاق سراح المحكومين بعقوبات الاعدام او السجن المؤبد، من مرتكبي جرائم قتل لا تندرج ضمن ما يعرف بالمادة الرابعة من قانون مكافحة الارهاب. وما تداوله المشرعون اثناء المناقشة يؤكد التوجه نحو العشيرة لدفع دية القتيل، ومنح الحرية للقاتل.
مواضيع
العنف في العراق يتسلّل إلى داخل الأسرة
مقالات من العراق
سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"
لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...
بغداد وأشباحٌ أخرى
عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.
فتاة كقصبة ال"بامبو"
"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...
للكاتب نفسه
النكتة العراقية تخرج من مداراتها السرية
للنكتة قوة نقدية كبيرة، تطال الاوضاع الاجتماعية والفكرية والسياسية. واذا كانت النكتة الاجتماعية اختزلت في إيضاح حمق الآخر وبلاهته، فإن النكتة الفكرية تعتمد على التناقض الحضاري بين الشعوب، وتتمحور حول...
الهروب غرباً، بعيداً عن ظلال النخيل
قال عدنان سامي (27 عاما)، "مضت خمس سنوات وأنا أبحث عن عمل، يبدو أن تخصص الكيمياء الذي قضيت أربع سنوات أدرسه في جامعة بغداد، بات غير مرغوبا به في العراق،...
Violence in Iraq Affects Family Life, Too
The worsening security situation in Iraq is casting its shadow over the country’s social life. It is affecting the psychological state of many citizens, and has led to family violence....