محسن حامد عراقي تجاوز الثلاثين من عمره، لا يخشى الحديث عن مغامرته في بيع كليته، ليشتري بثمنها سيارة تكون مصدر رزقه الدائم. فهو رب أسرة، يسكن في حي شعبي في اطراف العاصمة بغداد بجانب الكرخ، يستأجره بمبلغ 250 الف دينار شهريا، ما يعادل 200 دولار. اطفاله ثلاثة اولاد وبنت واحدة، وجميعهم باعمار متقاربة وتلامذة في المرحلة ابتدائية.
مغامرة حامد ببيع كليته بمبلغ يقل من عشرة الاف دولار وفرت له فرصة شراء سيارة اجرة ايرانية الصنع بنحو عشرة ملايين دينار بالعملة المحلية. ولكن مغامرته اوقعته في مشكلة صحية، اخذت تستنزف دخله الشهري غير الثابت، فهو يتكلف مبلغ 25 الف دينار اجرة للطبيب الذي يضطر لمراجعته اسبوعيا، ومثلها للدواء. ومع شعوره بالندم لاقدامه على خطوة غير محسوبة العواقب، يرى قراره ببيع كليته الوسيلة الوحيدة التي توفرت أمامه لمعالجة عجزه عن الحصول على فرصة عمل: "بعد وفاة أبوينا، بعنا دارنا الواقعة في مدينة الثورة - الصدر حاليا – لتقاسم ثمنه بين الورثة. اشقائي الاربعة يعملون بوظائف حكومية، وانا الوحيد كنت منتسبا لاحدى الدوائر المنحلة في وزارة التصنيع العسكري، وتمت احالتي للتقاعد براتب شهري مقداره 300 الف دينار". ويتابع: "انا وزوجتي واطفالي كنا نشغل غرفة واحدة في منزل العائلة، وكذلك بقية اشقائي. بعد وفاة الاهل، اصبح كل واحد منا يسكن في دار مؤجرة، وفي احياء متفرقة".
شارع المغرب في حي الوزيرية بجانب الرصافة من العاصمة يضم اشهر مشفى اجريت فيه اول عملية زرع كلية في العراق بداية السبعينات من القرن الماضي، على يد الجراح المعروف وليد الخيال المقيم حاليا في دولة مجاورة. في هذا الشارع اكثر من مشفى أهلي، فضلا عن عيادات اطباء بمختلف التخصصات، اغلبهم غادر البلاد، وبعضهم ما زال يزاول مهنته ليقدم خدماته لمئات المرضى يوميا. النظرة السريعة للشارع لا تكشف ما يثير الارتياب، ولكن حينما يحتك صاحب الحاجة بعمال العيادات الطبية وباعة الارصفة واصحاب المحال، يكتشف ان بعض هؤلاء سماسرة، يتولون مهمة عقد الصفقة بين بائع الكلية ومشتريها من دون ان يرى احدهم الاخر. وهذا ما حصل لحامد: "تشجيع احد اصدقائي للحصول على مبلغ من المال لقاء بيع الكلية قادني الى شارع المغرب. وبلقاء سريع مع احد العاملين في العيادات، تمت الصفقة على التبرع بكليتي لأحد المرضى بمبلغ 10 الاف دولار، شريطة الخضوع لفحص طبي شامل". واشار الى انه تردد في اتخاذ القرار لكنه وافق تحت ضغط الحاجة: "في الشهر الثالث من العام 2009 أجريت العملية، وتسلمت مبلغ 9 الاف دولار، ولا أعرف من حمل كليتي".
قصة حامد لا تعنيه بمفرده. فهي تؤشر الى ظاهرة في العراق برزت منذ عقد التسعينات، اثناء فرض العقوبات الاقتصادية وتردي الواقع المعيشي وانخفاض دخل الفرد. آلاف العرب من جنسيات مختلفة اجروا عمليات زرع الكلية في المشافي العراقية.
احد العاملين في مشفى متخصص قال ان العملية تكلف بحدود خمسة ملايين دينار "موزعة بين أجور الجراح والخدمات المقدمة للمريض والمتبرع"، نافيا قيام المشافي بدور الوسيط في عمليات البيع والشراء: "المسألة تتعلق بالمريض نفسه وعليه ان يوفر المتبرع ". وهو أوضح ان معدل اجراء العمليات في الشهر الواحد في المشفى الذي يعمل فيه يتجاوز العشرة. ولكن الارقام العامة غير معلنة ولا توجد بيانات دقيقة فيبقى الامر رهن التخمينات. طبية التخدير نغم هاشم تؤكد ان الظاهرة برزت في العراق منذ عقد التسعينات، ولم تختف بعد ذلك، "واسهم في شيوعها تراجع المستوى المعيشي، فضلا عن سعي اصحاب المشافي، واغلبهم من رجال الاعمال، للحصول على الربح السريع. والعمليات تجري تحت شعار انساني مزيف باطلاق تسمية المتبرع على بائع الكلية"، موضحة ان السعر السائد اليوم للكلية السليمة المناسبة يبلغ "عشرة الاف دولار يخصم منها الف دولار للوسطاء"، مستبعدة ان يكون للاطباء دور في التوسط، فمهمتهم محددة باجراء العملية الجراحية واستيفاء الاجور من ادارة المشفى، و"الاجر يحدد وفق سمعة الجراح وشهرته". ولفتت الى شيوع ظاهرة بيع الدم "اصبح اليوم بحدود 100 الف دينار للقنينة الواحدة، والفئة النادرة تباع بأعلى من هذا السعر".
الاكاديمي والناشط في مجال حقوق الانسان ضياء المشهداني يشير الى أن تقارير المنظمات المعنية بحقوق الانسان اكدت ان "نسبة العراقيين تحت خط الفقر بلغت اكثر من 40 % في العام 2012، باستثناء اقليم كردستان، وخلفت الحروب وأعمال العنف ملايين الارامل والايتام، بعضهم فحسب مشمول بنظام الرعاية الاجتماعية. ولكن هذا يتيح للمستفيد منه تقاضي مبلغ لا يتجاوز 150 الف دينار شهريا". ما يعني اللجوء الى بيع الكلى والدم والتسول...
*صحافي من العراق