عندما بدأت مجموعة من الصحافيين المتحمسين للعمل الاعلامي المستقل العمل في الجريدة قبل اربع سنوات، لم يدرك احد منهم ان الادارة العملاقة كانت تنظر لمطبوعتهم باعتبارها بوقاً لمصالح ملاكها، وليس كصحيفة «مستقلة».
«يبدو أنه كان ينظر إلينا باعتبارنا واجهة لصاحب رأس المال، او منبراً يوفر مصدراً للوجاهة والسلطة له». هكذا تلخص لينا عطا الله رئيسة تحرير صحيفة «ايجيبت اندبندنت» قرار إدارة «المصري اليوم» بإغلاق المطبوعة التابعة لها، بعد أقل من أربع سنوات على انطلاق الموقع الالكتروني للإصدار الناطق بالانجليزية.
قبل اشهر عدة اغلقت الادارة ايضاً مجلة «السياسي». وعزت السبب في الحالتين الى الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وقصور الموارد، وما وصفته بالتوجه العالمي الحالي لهجرة الصحافة المطبوعة. بينما يرى الصحافيون والمتابعون للعمل الإعلامي أن الاسباب سياسية في المقام الأول، ويعتقدون بأنه تهديد لمستقبل الصحافة المصرية بعد ثورة قامت من أجل الكلمة الحرة.
«جيلنا الساذج هو من سيسقط نظامكم الإعلامي»، «كيف دمّرت المهارات الادارية السيئة صوتاً مستقلاً»، «الصحافة بين الدولة والقطاع الخاص»، «مهنة المتاعب: الأمن الوظيفي، والمشاكل المالية، والمخاطر تهدد الصحافة». بهذه العناوين ودّع صحافيو الجريدة قراءهم في العدد الخمسين والأخير منها، في 25 نيسان/ابريل، الذي رفضت الإدارة طباعته، فما كان من الفريق إلا أن قام بنشره على الانترنت، بعدد يشبه الثورة على الواقع الصحافي المعاصر.
تقول عطا الله «كل ما كنا نحلم بتحقيقه هو أن نكون صحافيين أحراراً ندير مطبوعتنا باستقلالية عن أية توازنات سياسية أو اقتصادية قد تهدد عملنا الصحافي الحر. وهو ما لم يعجب الادارة بالطبع». فيما تسيطر الدولة على الصحف القومية، فقد اصبحت الصحافة الخاصة أو التي تُعرف بـ«المستقلة» بدورها مهددة في مصر، بعد ان أثبتت التجربة القصيرة أن ساحة الإعلام باتت مضماراً لرجال الأعمال والأحزاب السياسية الطامحة إلى السلطة، تشنّ عبرها الحملات الإعلامية ضد بعضها بعضاً.
الصحافة كـ«بريستيج»
«لا يوجد ما يُسمّى بالصحافة المستقلة في مصر. ما نراه هو صحافة خاصة كنا نأمل لها أن تحقق قدراً أكبر من الاستقلالية مقارنة بالصحافة القومية»، وفقاً لرشا عبد الله أستاذة الإعلام بالجامعة الأميركية بالقاهرة، «وهذه تماماً مثل الصحافة القومية، يسيطر عليها مجموعة من رجال الأعمال الذين ينظرون للصحف ليس باعتبارها مشروعاً استثمارياً مربحاً وإنما باعتبارها منبراً يخدم البيزنس الخاص بهم، ويمنحهم شكلاً من أشكال البريستيج او القوة أو الوجاهة والسلطة. وإذا تخطى الفريق التحريري ذلك، يتدخل الملاَّك بطرق مختلفة وبنسب متفاوتة، وهو ما حدث في حالة «ايجيبت اندبندنت». هي قصة صحافيين حاولوا ممارسة المهنة باحترافية واستقلالية، ما أزعج الإدارة، لأن كتاباتهم في طور معين بدأت تتعارض مع مصالح الملاك سواء السياسية او الاقتصادية».
كانت أكثر المواجهات احتقاناً بين ادارة «المصري اليوم» والفريق التحريري للمطبوعة الانجليزية هي واقعة تدخّل الادارة لمنع مقال للكاتب الأميركي روبرت سيربنبرج ينتقد فيه المجلس العسكري الحاكم وقتها في كانون الاول/ ديسمبر 2011 من خلال مصادرة نحو 20,00 نسخة من الجريدة، حيث كتب مجدي الجلاد رئيس تحريرها وقتذاك أن المقال يهدف «لخدمة مخططات وأهداف غربية»، مردداً الكلمات ذاتها التي اعتاد النظام المصري ترديدها لمنع او تشويه اي فعل يراه معادياً لمصالحه. قام الفريق الصحافي وقتها بشن حملة ضد الرقابة الداخلية للإدارة ودخل في معركة تابعتها الصحف ومواقع التفاعل الاجتماعي. وبعدها، بحسب لينا، استطاع الفريق تحقيق استقلالية تامة عن الإدارة الأم، وغيّر اسم المطبوعة الى «ايجيبت اندبنتدنت»، اي «مصر المستقلة» بعد أن كان اسمها من قبل «الطبعة الانجليزية من المصري اليوم».
ووفقاً لعبد المنعم سعيد رئيس مجلس ادارة «المصري اليوم» (الوافد من «مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الذي كان رئيسه وأحد أركان السلطة أيام مبارك)، فإن تصوير القضية في الاعلام على أن قرار المؤسسة بإغلاق «ايجيب اندبندنت» يرجع «لجماعة من الرأسماليين الجشعين، أو جماعة من الإداريين الذين يقودهم من كان من الفلول» يحمل قدراً كبيراً من «التدليس» و«التزييف»، مؤكداً ان الموضوع بالأساس اقتصادي ويرجع الى فشل مجموعة الصحافيين في كتابة ما يجذب القارئ، ومن ثم يرفع الاشتراكات والمبيعات.
كتب سعيد: «في كل ما نشر عن الموضوع لم تذكر مرة واحدة المعلومة البديهية عن حجم توزيع الصحيفة (٥٠٠ نسخة فى المتوسط)، ولا حجم اشتراكاتها (70 اشتراكاً)، ولا حجم الديون (خمسة ملايين جنيه)، التي سببتها للمؤسسة، خلال سبعة شهور فقط من إصدارها».
«هل فوجئت الادارة بين ليلة وضحاها بأن الصحيفة غير مجدية ولا تحقق الربح الكافي؟ اما كان الأولى بها وهي تبدأ مشروعاً كهذا بعمل دراسة جدوى لفهم ما اذا كانت المشروع مجدياً وسيحقق استمرارية؟ وهل في ظل فشل الادارة تصبح مسؤولية الصحافي وضع خطة اقتصادية ناجحة لرفع المبيعات؟»، تتساءل عطا الله. يرى المتابعون للشأن الاعلامي في مصر أن الصحافة، بنوعيها الحكومي والخاص، تتعرّض لمجموعة من الانتهاكات تهدّد استقلالية العمل الصحافي، وتتنوّع بين الرقابة والمنع والمصادرة والاعتداء بالضرب والسبّ والتهديد للصحافيين ومحاكمتهم.
رقم قياسي في انتهاك حرية الصحافة
وبحسب التقرير السنوي الصادر عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان الأسبوع الماضي فإنه برغم وعود الرئيس مرسي المستمرة بحماية حرية الصحافة والإعلام حال انتخابه، إلا أن تسلّمه السلطة في حزيران/ يونيو الفائت - بحسب التقرير- لم يكن إلا نهاية حقبة وبداية أخرى في التضييق على حرية التعبير والحريات الإعلامية، حيث رصدت الشبكة 24 انتهاكاً على الاقل في أول مئة يوم من حكم أول رئيس منتخب في تاريخ مصر الحديثة، وهو ما يشكل رقماً قياسياً في تاريخ مصر. ويرى المراقبون أن ذلك يكشف عن نية الرئيس الجديد في خنق أي معارضة لجماعة الإخوان المسلمين التي انتمى إليها فكرياً وتنظيمياً على مدار 30 عاماً.
من الانتهاكات التي رصدها التقرير مصادرة السلطات لعدد 11 آب/ اغسطس من جريدة الدستور الخاصة لاتهام الجريدة بالـ «الحض على الفتنة الطائفية وإهانة رئيس الجمهورية والتحريض على الفوضى بالمجتمع». وفي منتصف شهر تشرين الاول/أكتوبر الفائت قام رئيس تحرير جريدة «اﻷخبار» القومية بإصدار قرار شفهي بحرمان الكاتبة الصحافية «عبلة الرويني» من كتابة عمودها اليومي المستمر منذ حوالي أربع سنوات على صفحات الجريدة، وذلك في اليوم التالي لحجب مقالها «الملك عارياً» الذي ينتقد هيمنة جماعة الإخوان ومجلس الشورى على الصحف القومية، ومحاولة التضييق المستمر على مقالاتها في جريدة الأخبار.
كما واجه رئيس تحرير جريدة الدستور «إسلام عفيفي» محاكمة وحبساً احتياطياً في آب/ اغسطس الماضي على خلفية دعوى تتهمه بإهانة رئيس الجمهورية ونشر أخبار كاذبة، رغم عدم توافر شروط الحبس الاحتياطي عليه، ورغم أنها قضية نشر. بينما أصدر النائب العام قراره بإحالة عفيفي إلى المحاكمة الجنائية بتهمة إهانته للرئيس ونشر أخبار كاذبة بعد الانتهاء من التحقيقات، فضلاً عن إدراج اسمه ضمن قوائم الممنوعين من السفر. وبعد ضغوط كبيرة من المجتمع المدني، أصدر رئيس الجمهورية قراراً بإيقاف الحبس الاحتياطي في قضايا النشر، وعليه قرر النائب العام إطلاق سراح إسلام عفيفي.
وفي كانون الاول/ ديسمبر 2012، أمر النائب العام بفتح تحقيق مع الإعلامي إبراهيم عيسى، في البلاغ الذي تقدّم به ممدوح إسماعيل، المحامي بالنقض والعضو السابق بمجلس الشعب المنحل. وفي الشهر ذاته تقدمت رئاسة الجمهورية ببلاغ للنائب العام ضد الكاتبة الصحافية «علا الشافعي» وضد «خالد صلاح» رئيس تحرير جريدة «اليوم السابع» على خلفية مقال للكاتبة نشر على صفحات الجريدة بعنوان «جواز مرسي من فؤادة باطل»، تنتقد فيه العنف الذي استخدمته جماعة الإخوان المسلمين أمام قصر الاتحادية والذي نتج عنه مقتل متظاهرين سلميين وإصابة واحتجاز عدد من النشطاء، وانتقدت خطاب الرئيس في اليوم التالي على تلك الواقعة إذ اعتبرته يدافع عن أعمال العنف التي ارتكبت من قبل جماعته.
الدِين كسلاح
«النظام الحالي يمارس سياسات النظام السابق نفسها في تكميم الأفواه، ولكن بشكل أشرس. فهم معهم الدين الآن ويعتبرونه سلاحاً»، وفقاً لـ«جمال عيد» مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. «المشكلة الحقيقية تكمن في طبيعة النظام الحاكم وتصوره لوظيفة الصحافة والإعلام في أنها مجرد بوق للنظام». «بعد عامين من انتفاضات المنطقة، ما زلنا نرى جهوداً متصاعدة من جانب الحكومات المتسلّطة لفرض خناق على الإعلام، وهو ما يسلّط الضوء على الحاجة إلى اليقظة في دفع وحماية الصحافة المستقلة». ووفقاً لعيد، فإن الدستور الصادر بعد الثورة والذي أصدره مجلس الشورى مليء بالثغرات التي تقلص حجم الحريات الصحافية وتكبل عمل الصحافيين. فالمادة 215 مثلاً تستبدل المجلس الأعلى للصحافة، وهو هيئة منتخبة مؤلفة من صحافيين، بالمجلس الوطني للإعلام الذي تعيّن الحكومة أعضاءه. ويتولى هذا المجلس «وضع الضوابط والمعايير الكفيلة بالتزام وسائل الإعلام المختلفة بأصول المهنة وأخلاقياتها»، و«مراعاة قيم المجتمع وتقاليده البناءة». وهذا بمثابة منح الهيئة الحكومية الجديدة سلطة السيطرة على التغطية الإعلامية والإخبارية وتوجيهها. كما تتيح المادة 48 للمحاكم إغلاق مرافق وسائل الإعلام إذا وجدت المراجعة القضائية أن أحد العاملين في الوسيلة الإعلامية المعنية لم يحترم شروط هذه المادة، بما في ذلك «احترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومقتضيات الأمن القومي». وهي كلمات فضفاضة ويمكن أن يستخدمها النظام لتهديد ما يراه غير مناسب له.
تقول لينا عبد الله: «وزير الإعلام يقول اننا نعيش في ظل حرية اعلام غير مسبوقة، في حين ان ما نراه ليس حرية تعبير. ما نراه هو مجموعة من الصحافيين الذين قرروا انهم سيعاندون السلطة ويدافعون عن مساحة التعبير التي أخذوها بالقوة قبل وبعد الثورة. كي نتحدث عن حرية صحافة يجب ان تكون هناك ارادة سياسية تحمي الصحافي بواقع الدستور، وهو ما تفعل الدولة عكسه... تماماً كما في عصر مبارك، فالصحافي او الإعلامي اليوم يمارس مهنته وهو يدرك انه لا يوجد قانون يحميه ولا دستور يستند اليه، ويدرك الثمن الذي من الممكن ان يدفعه مقابل كلمته».
وترى عبد الله ان الصحافي في مصر يواجه منظومة كاملة من الاخطار التي تجعل عمله مهدداً دائماً، فهو يواجه أخطاراً جسدية وأوقاتاً من عدم الاستقرار المالي، والملاحقات القضائية بتهم التشهير، كما تعوزه الموارد والتشجيع اللازم لعمل تحقيقات صحافية جادة. «ما اصبحت هناك حاجة ملحة له هو صحافة حرة مستقلة مملوكة للصحافيين وتخدم الشعب. ثنائية الدولة والبيزنس تروح ضحيتها الصحافة ثم الشعب... بالإضافة الى اهمية ان يصبح الصحافي مالكاً أسهماً في الجريدة ليصبح جزءاً من صناعة القرار».