تعالت الصرخات المستنكرة لاختيار الرئيس ترامب جينا هاسبل كمديرة لوكالة الاستخبارات الأميركية، خلفاً لبامبيو الذي صار وزير خارجية الولايات المتحدة: عليها أن تواجه تاريخها الفظيع قبل التنطح لمنصبها الجديد، تقول صحف برصانة الغارديان البريطانية مثلاً، وتعتبر جلسة سماع مرافعتها عن تعيينها في الكونغرس مناسبة لسؤالها عن الفظاعات التي أمرت بها، وتلك التي أشرفت عليها شخصياً. ويعترض عليها مسئولون ونواب أمبركان وصحافيون وكتّاب مُعظّمين بشاعة اختيارها لمنصبها. ويقول إدوارد سنودون الذي عمل كتقني متعاقد مع وكالة الاستخبارات الأميركية وسرّب معلومات للصحافة كشفت ممارساتها غير القانونية وما ترتكبه بشكل سرّي، انها يمكن أن تواجه التوقيف لو حطّت قدميها في ألمانيا وبلدان شينغن، لأن هناك دعوى مقامة ضدها.. ويجادل صحافي من صحيفة "ذي انترسبت" الالكترونية الأميركية، الجدية والنقدية، بأن أهم ما خرجت به محاكمات النازيين في نورمبرغ بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، هو بطلان حجة انهم إنما نفذوا الأوامر وحسب، أو نفذوا سياسات حكومتهم. وقد قررت المحكمة أن ذلك لا يعفي البشر من المسؤولية عما اقترفوه. والمطالعة/ القرار ــ الذين أُعدم بعض هؤلاء في ظله ــ قد أدى الى أهم تعديل في القانون الدولي للأمم المتحدة، حيث أُدخل اليه "مبدأ تأسيسي" يقول أن "واقعة تصرّف شخص على ضوء أوامر حكومته أو رئيسه لا يعفيه من المسئولية بحسب القانون الدولي"، حتى لو أدى ذلك الى تعرّضه شخصياً لضرر جراء "الخيار الاخلاقي" المعارض. وقد تكرر الامر مع أدولف أيخمان، رئيس البوليس السري النازي ("غستابو")، الذي اختطفته اسرائيل وحاكمته وأعدمته في العام 1962، وكتبت حنة أرنت بمناسبة تغطيتها للمحاكمة كتابها الشهير عن "عادية الشر"...
بماذا تلام جينا تلك؟ بانها كانت المسؤولة عن بعض أبرز السجون السريّة التي أقامتها الولايات المتحدة حول العالم بعد "سبتمبر 2001"، وعن برامج تعذيب المعتقلين فيها، ومنها تقنية الإغراق، وانها أشرفت بنفسها على تعذيب أبو زبيدة (أحد مسؤولي "القاعدة" السعوديين) وآخرين من رفاقه في سجن سرّي في تايلاند قبل نقلهم لغوانتانامو (حيث ما زالوا)، وأنها وجّهت عمل الطبيبين الاخصائيين النفسيين اللذين وضعا البرنامج، وتبادلت البرقيات مع إدارتها حول الموضوع، وانها بعد ذلك، وحين نشرت الواشنطن بوست في 2005 عن الأمر، دمّرت الوثائق التي تخص الملف وأتلفت التسجيلات (ما يعني انها تعي خطورتها)، وأنه كان من مسؤوليتها أن تقرر إيقاف التعذيب لو إرتأت ذلك، وبالاخص إن كان المعتقل لا يمتلك ما يقوله بعد، أو ظهر بأن مسؤوليته الجرمية محدودة، كما كانت حال أبو زبيدة ذاك.. ولكنها لم تفعل. وينحرف البعض في التفسير الى القول أنها ورفاقها إنما كانوا "يستمتعون" بجلسات التعذيب تلك، وهو القول الذي يبدو قاسياً ومُديناً، ولكن بينه وبين طلب علاج نفسي لهم بصفتهم مرضى، شعرة.
وللعلم، فهي كانت نائب رئيس وكالة الاستخبارات منذ شباط/ فبراير 2017، وهو تعيين قرره الرئيس ترامب مع استلامه لمسؤولياته في البيت الابيض. وهي كانت مسؤولة في تلك الوكالة التي عملت فيها لمدة 33 عاماً، و"شديدة الاخلاص لعملها ومهنية موثوقة" بحسب الرئيس، الذي يضيف في معرض الجواب على انتقادات سابقة تخص ممارسة التعذيب: "التعذيب مفيد، حسنا يا جماعة، تعرفون هؤلاء الرجال الذين يقولون ان التعذيب لا ينفع! صدقوني هو يشتغل وينفع".
ولو ظن أحد أن ذاك قول ــ بغض النظر عن الصيغة الفظّة التي تطبعه ــ متلائم مع ترامب وخصاله فحسب، فليراجع نفسه. فالرئيس الكاريزمي أوباما، اللطيف، المرح والمثقف الذي يجيد الخطابات الاخلاقية/ الفلسفية العميقة والمقنعة، رفض في 2008 ادانة أبطال المعتقلات السرية والتعذيب، بحجة أنه "علينا النظر الى الامام بدل التطلع الى الخلف" (فهل هذه حقاً من الماضي؟)، وأن "هؤلاء في السي أي إي كانوا يعملون بجدية للحفاظ على سلامة أميركا"، وأنه "لا يريدهم أن يشعروا فجأة انهم كمن كانوا يقومون بعملهم بشكل سيء طوال الوقت".
... ومنها نووي خفيف ظريف مخصص لأمثالنا
08-02-2018
وكان الرئيس جورج بوش قد منح في 2006 الحصانة لكل عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية وموظفيها الذين اشتغلوا على وضع برامج التعذيب تلك وعلى تطبيقها، سواء في السجون السرية او في غوانتنامو أو في العراق، وهي الأمثلة التي اشتهرت، وثمة غيرها بالطبع.
واليوم يقول رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ انه يؤيد جينا وسيدعم تثيبت تعيينها في الكونغرس، فهي "تمتلك المؤهلات اللازمة للمنصب، والخبرة والفطنة لترأس واحدة من أدق وكالات أمتنا وأكثرها حساسية".
وبديهي أنه ليس من النسوية في شيء الاعتداد بأنها المرة الاولى التي تتولى فيها إمرأة منصب ادارة الوكالة.. فالقاعدة المعروفة أن على المرأة أن تبز الرجال في ميدانها لتستحق الاعتراف بها كمساوية لهم أو أن يُسلّم لها بالتفوق عليهم، اياً كان هذا الميدان: فتبدع أكثر من أقرانها الذكور وتناضل أكثر من رفاقها.. أو تعذِّب أكثر مثلما فعلت "جينا الدموية"، أو تُظهر قسوة أكبر حيال الشؤون العامة وتبلداً واستهتاراً ببؤس الناس كما فعلت مادلين أولبرايت التي كانت أول إمرأة تتسلم منصب وزيرة خارجية أمريكا في 1996 زمن كلينتون، وهي القائلة رداً على سؤال، أن موت آلالاف من اطفال العراق في زمن الحصار الذي ضربته بلادها والتحالف الدولي على بلاد الرافدين هو "ثمن مناسب".. أو مارغريت تاتشر، أول إمرأة تصبح رئيسة وزراء لبريطانيا وأطول رئيس وزراء في مدة بقائها في الحكم (1979- 1990)، وهي الملقبة بـ"المرأة الحديدية"، وكانت وراء كل برامج الخصخصة النيوليبرالية التي رمت بملايين البريطانيين في البطالة وخارج أي تقديمات حيوية، خدمةً لـ"ازدهار الاقتصاد"، وهي الصيغة والنظرية والتدابير التي انتشرت مذاك وصارت خاصية الرأسمالية في طورها الراهن.
ثم أين سائر الجلادين، ومن حوكم أو أُدين منهم أصلاً، أو حتى شُهِّر به.. ومن يقول أن تلك الممارسات التي تكافأ عليها هاسبل اليوم قد توقفت، وأن الامور تجري بعدل وشفافية؟
"غريزة" ترامب الاصلية!
24-08-2017
لمرّة، ينبغي الاقرار بأن ترامب مصيب في خياره، ومتسق مع نفسه كرئيس سلطة ذات بنية كاملة قامت وتقوم ــ من بين أشياء أخرى بالطبع ــ على الاجرام: منذ إبادة الشعوب الاصلية الى عبودية السود الى القنبلة النووية فوق هيروشيما وناغازاكي الى استخدام النابالم في فييتنام الى معسكر أبو غريب في العراق إلى غوانتانامو الى آخره!
ملحوظة: واستباقاً للجدل والمقارنات العقيمة، فأميركا ليست وحدها في هذه الحال، ولكنها موضوعنا هنا.. وكذلك أن الأمر في الاساس لن يتغير إلا حين يصل البشر الى الشعور والقناعة بالحاجة الملحة في اعتماد خيارات مختلفة، تخص تصورهم لحياتهم والمنظومة القيمية التي يتبنون، وهو موضوع آخر ايضاً!