في السنوات السبع الفائتة، تشقق المجتمع السوري أفقياً وعمودياً. وأحد أبرز نتائج تلك التشققات هي التسلح الجمعي. خروج مناطق كثيرة عن سيطرة السلطة الرسمية (بغض النظر عن الموقف السياسي)، وخاصة المناطق الحدودية والمعابر الرسمية، أتاح وصول تلك الأسلحة إلى مختلف المناطق دون أية رقابة. وكان لذلك دوافع كثيرة تبدأ من الموقف السياسي ضد النظام ولا تنتهي عند الحماية الفردية.
اليوم، هناك سوق واقعي للسلاح الفردي في مختلف المحافظات حيث يمكن بقليل من البحث الذكي، الوصول إلى متاجر في مختلف أنواع السلاح الفردي ـ الروسي والأميركي والصيني، بعضها متخصص في أنواع محددة وبعضها الأخر يبيع إمدادات لوجستية مثل البدلات والمناظير والطلقات.
تحولات "حداثوية" للسوق
كان التحول الأبرز في هذه السوق النشطة استخدامها منصات التواصل الاجتماعي المختلفة للوصول إلى عملاء جدد، حيث لا يمكنها ذلك عبر شبكات الهاتف المحلية المراقبة أو بسبب ضعف القنوات المعتادة في تجارة السلاح. طرق التهريب (قد) تمر في مناطق تسيطر عليها الحكومة، ومن ثَمّ مناطق تسيطر عليها المعارضة. وهذه الطرق تستخدم بعد تثبيت عملية البيع التي تكون عادة بضمانة أطراف ثالثة تتلقى عمولتها بشكل إلكتروني وأسماء وسيطة.
هناك منصات متعددة تتوافر عليها مختلف أنواع قنوات البيع. في العام 2016 تعهد فيسبوك بمراقبة هذه العمليات وتقديم تقارير عنها ومحاربتها ما أمكن، وأعد في شهر نيسان/ إبريل من العام نفسه تقريره الأول الذي أشار إلى وجود "أسواق" ذات فاعلية في كل من العراق وسوريا، ولكنه أشار إلى أن استخدام الواتسأب (الذي تملكه الشركة نفسها) يحتل المركز الأول.
في الشمال والجنوب السوريين، تستخدم منصة سناب شات وتيليجرام أكثر من غيرها. عند إجراء بحث بسيط فيهما يُكتشف وجود أكثر من عشر قنوات تستخدم كلمات "سلاح"، "عتاد"، "مناظير"، "بواريد"، "احمل سلاحاً"..، وبعضها يضع عنواناً موحياً مثل "سوق المجاهدين"، "سلاح المجاهدين"، و"سوق إكسسوارات السلاح".. وبعضها يطلب الدخول إلى "الخاص" لإتمام عمليات العرض والشراء.
روسيا في سوريا: من النافذة إلى البحر
31-01-2017
يتراوح عدد المتابعين أو المنضمين للقنوات من مئة إلى ألف متابع مع ملاحظة أن كثيرين ينضمون إليها لوقت قصير وينسحبون لغايات أمنية، وجزء كبير منهم يحملون أسماء مستعارة معتادة لدى الجماعات الإسلامية، وكان لافتاً الغياب شبه التام للنساء من بين هذه الأسماء.
تتيح منصة تيليجرام ميزات مختلفة وقوية عن المنصات الأخرى مثل فيسبوك، فالخصوصية فيها عالية إلى حد كبير، حيث يمكن إخفاء رقم الهاتف، وهناك إمكانية لإرسال واستقبال الرسائل عبر اسم المستخدم username وبدون معرفة رقم الشخص المستخدم فيه، وبالتالي إخفاء هويته حتى على المنصة نفسها وعدم إظهار رقم هاتفه لمن يراسلهم، إلا أنه من الواضح أن كثيراً من المقاتلين لا يلتزمون بهذه الطرق وهم يكتفون فقط بتغيير اسمهم إلى اسم حركي، وجزء كبير من هذه الأسماء كان يستخدم أرقام هواتف تركية.
كذلك تتيح تقنية "البوت" التي ينفرد بها البرنامج الشهير الاحتفاظ بالسرية الكاملة للمشاركين في العمليات وحذف المحادثات دون ترك أي أثر. لذلك فان التبليغات على المجموعات هنا ذات أثر قليل عليها، خلافاً لمنصات الفيسبوك العمومية.
نوعيات فاخرة وتحت الطلب
في مناطق سيطرة المعارضة، العملية متاحة وممكنة عبر قنوات التواصل الاجتماعي كما في الواقع. بالطبع لا يمكن ضمان وصول هذا السلاح إلى مجموعات أو أفراد متفقة مع الموقف السياسي للبائع، الذي يكون عادةً محمياً من قبل تنظيم أكبر. ولكن المجموعات البائعة تحرص على أن تبقى تلك العمليات في مناطق خاضعة لنفوذها تفادياً لفقدانها العملاء والسلاح المباع. لذلك فإن عمليات البيع على الشبكة الافتراضية تجري بحرص وحذر شديدين بحيث قد تتم دون أن يعرف أو يتعرف الطرفين ببعضهما البعض، وقد تتم عبر طرف ثالث ثقة لديهما.
تراوحت نوعيات الأسلحة المعروضة للبيع على شبكات التليجرام المرتبطة بالشمال والجنوب السوري من الأسلحة الخفيفة مثل المسدسات الأميركية (الجولد أكثرها انتشاراً، و9.9) والروسية أيضاً (9.14، ومصدره على الأرجح هو من مخلفات الجيش السوري)، والبنادق المختلفة مثل كونكوف، وكلاشنكوف، والإدعشاوية والدوشكا والأربي جي وأنواع أخرى يطلق على كل منها لقب خاص يفهمه الشاري والبائع مثل "بارودة صاروخ شحرات مطابقة طي" و"الأكي" و"مسدس 9 9 تسليم مجلس".
هناك عروض أخرى خارج السلاح التقليدي الفردي، فهناك إمكانية لشراء متفجرات TNT بضمانة التجريب، وكذلك شراء أنواع محددة من الأسمدة الزراعية التي يتيح مزجها مع مواد متوافرة في البيئة المحلية إنتاج مفخخات فعالة (وهو سبب توقف معمل حمص للأسمدة عن إنتاج سماد اليوريا 33 الزراعي منذ سنوات). وتتوفر أيضاً البدلات العسكرية الأميركية والصينية الصنع، حسب الطلب، والمناظير والبوصلات... وكانت إحدى أغرب المفاجآت أن هناك من يبيع حصرياً للأميركيين الصقور السورية نادرة الوجود.
كان اللافت على إحدى المجموعات وجود براميل تحتوي مواد كيمياوية للبيع بأسعار مخفضة، ولم يُمكن معرفة محتوياتها، وكذلك وجود مختلف أنواع الصواريخ الحرارية والمضادة للدبابات وللدروع ("كونكرس"، "أميركي الصنع"، "تاغ هوت"..). وأسعار هذه تتراوح بين 1200 و1800 دولار أمريكي، ومختلف أنواع القذائف والطلقات تراوحت أسعارها بين 5 دولار إلى 250 دولاراً للصندوق.
اليوم، هناك سوق واقعي للسلاح الفردي في مختلف المحافظات حيث يمكن بقليل من البحث الذكي، الوصول إلى متاجر في مختلف أنواع السلاح الفردي الروسي والأميركي والصيني، والإمدادات اللوجستية..
يتوافر أيضاً مجموعات اتصالات متكاملة تبدأ من الأجهزة الخلوية العاملة على شبكات الثريا العالمية وصولاً إلى أجهزة توجيه عالية الدقة، يرجح أن تكون مصادرها وصلت إلى الشمال السوري عبر العراق. فبعد أن استولى داعش على سلاح الجيش العراقي، انتقلت تلك الأسلحة إلى سوريا وتوزعت على المجموعات المسلحة بطرق مختلفة، سواء عبر المعارك والغنائم أم بعمليات البيع والشراء بين المقاتلين. في شهر شباط/ فبراير الفائت تابعت محطة CNN الأميركية مسار تنقل بندقية هجومية من طراز إم 60 عبر رقمها التسلسلي، وصلت إلى هذا السوق، وطرحت عدة احتمالات من بينها أن هذا السلاح الذي صنع شمال ولاية كاليفورنيا جرى تسليمه ضمن برنامج دعم الحكومة الأميركية لقوات المعارضة السورية عام 2014، ومن المحتمل أنه وصل عن طريق البيع عبر تنظيم داعش. يبلغ سعر هذه البندقية 850 دولاراً و"سكرّة للمعتمد".
مختلف أنواع قطع التبديل لطائرات الدرون؟
كان هناك متجر على الانترنت يبيع قطع تبديل لطيارات الدورن وهي طيارات صغيرة الحجم بدون طيار وبأنواع مختلفة، منها فانتوم 4 بلسن. هذه "الدرون" هي بالأصل فكرة وصناعة أميركية وتشتهر بها اسرائيل، وقد قامت عدة دول بتقليدها، ومنها إيران وتركيا. وهذه الطيارة الصغيرة قادرة على حمل المتفجرات والتصوير (تزود بكاميرا ذات دقة عالية وتخزين ونقل مباشر للبيانات) واصطياد الأشخاص، وتتوفر لدى المعارضة المسلحة السورية التي حصلت عليها من مصادر مختلفة يرجح أن تكون سعودية، ولكن في الجيش السوري تأخر إعلان وجودها إلى وقت قريب وهي من مصادر إيرانية الصنع.
يقوم المتجر المذكور ببيع مختلف القطع التبديلية للطيارة بدءاً من البطاريات وشفرات الطيران وصولاً إلى البرمجيات التي تقودها، ولم يتم الإعلان عن الأسعار إلا عبر الخاص، ولكن يبدو أنه يتراوح بين 1800و2000 دولار. وتشير الصور التي وضعت على القناة إلى أن مصدر هذه القطع (قد) يكون صيني المنشأ. ويجري أيضاً التسويق لهذه المنتجات عبر مجموعات مشابهة على المنصات الأخرى.
في مناطق الحكومة غياب ووجود مخفي؟
لا شك أن سوريا بعد سنوات الحرب الطويلة ممتلئة بالسلاح، ويصح الأمر على كل المناطق السورية، والخلاف فقط في النوعية التي لحقت بالضرورة التموضع السياسي لهذه المناطق. وفي حين لوحظ غياب أية قنوات أو "بوت" لبيع السلاح في مناطق سيطرة الحكومة بشكل علني على منصة تيليجرام (وفيسبوك وسناب شات وتويتر وإنستغرام)، فإن عمليات البيع تتم على الأرض لأسباب مرتبطة بالواقع السياسي والأمني. هنا تنتشر البارودة الروسية الشهيرة "كلاشنكوف" وتباع في محلات محددة في مدينة مثل حمص بما يتجاوز 600 دولار أميركي، في حين يصل سعر القنبلة في اللاذقية بالمتوسط بين 50 ـ 100 دولار أمريكي. الأكثر ارتفاعاً في السعر هنا هي البواريد الأميركية ذات المناظير الليلية التي يصل سعر القطعة منها إلى أكثر من 1200 دولار أمريكي ولكن استعمالها وانتشارها مخفي لوجود ملاحقة أمنية لمن يمتلكها.
تتيح منصة تيليغرام ميزات مختلفة عن المنصات الأخرى مثل فيسبوك، وأقوى منها. فالخصوصية فيها عالية إلى حد كبير، إذ يمكن إخفاء رقم الهاتف وإخفاء هويت المستخدم حتى على المنصة نفسها
وعلى الأرجح فإن هناك قنوات افتراضية للبيع ضمن مناطق سيطرة الحكومة على مختلف المنصات السابق ذكرها، ولكنها مخفية لا يمكن للعموم الوصول إليها إلا عبر توصيات تتبع شكل الشبكات المغلقة واقعياً وتنتقل من ثم للعالم الافتراضي. يؤكد هذا الاستنتاج أن هناك انتشار كبير للسلاح في هذه المناطق أبرزه تصويت بسيط على صفحات فيسبوك شارك فيه أشخاص من كل المناطق السورية (عينة بحث مقبولة)، أكدوا أن انتشار السلاح الفردي في هذه المناطق "ظاهرة تحتاج علاجاً".
إضافة إلى ما سبق فإن هناك تواتراً دائماً لأخبار متداولة على منصات التواصل الاجتماعي تفيد بوقوع مشاكل تمّ فيها تبادل إطلاق نار وسقوط ضحايا، كان أخرها ما حدث قبل أيام في مدينة اللاذقية (حي الرمل الشمالي) حين أدّت مشاجرة قرب مدرسة ثانوية إلى سقوط قتيل وثلاثة جرحى بعد أن تطورت المشاجرة من خلاف لفظي إلى تبادل لإطلاق نار حقيقي. أسباب المشاجرة كانت خلافاً حول أحقية "صفّ السيارة أمام مدرسة البنات".
الحرب السوريّة تنتقل إلى السلوك الاجتماعي
13-09-2016
في العموم، يحظر القانون السوري الصادر عام 2001 حمل أي نوع من السلاح واستخدامه خارج مواقعه المحددة حتى لمن يملكون تراخيصاً. وحتى عام 2012 تسلمت الحكومة عبر وزارة الداخلية آلاف قطع السلاح من مسدسات وبنادق كانت بحوزة المواطنين وعوضتهم عنها، إلا أن الفترة التالية شهدت عودةً مظفّرة لظاهرة حمل السلاح والتنقل به في الأمكنة العامة والخاصة واستخدامه أيضاً لتحقيق مختلف الغايات.
لا يوجد هنا أي مبرر لوجود سلاح بين يدي منتسبي التنظيمات العسكرية، ويشير هذا الانتشار إلى جملة تفسيرات تبدأ بدعم منظومات الفساد و"التنمر" على الناس وممارسة "التشليح" والسرقات بطريقة احترافية، بالطبع فإن للاستعراض الذكوري دوره في المسألة في مجتمع يعاني من مختلف أنواع القهر والاستلاب والضياع بسبب الحرب وبسبب غير الحرب. وتماماً كما نقل أحد الشباب في التصويت السابق ذكره قوله: "إنه لا يمكن حل مشكلة مجتمعيّة ما لم يرها المجتمع المعني مشكلة".
من الصحيح أن الدولة تحاول قمع هذه الظاهرة ما أمكن في مناطق سيطرتها، ولكنها تبقى للوقت ظاهرة مؤثرة على سير الحياة وعلى حياة البشر نفسها التي قد يشاء سوء حظ أحدهم الوجود في أمكنة قد تحدث فيها مشادات لأتفه الأسباب.
تستمر... وتنتشر
أتاحت منصات التواصل الاجتماعي سهولة فائقة في إمكانية الوصول إلى أنواع مختلفة من السلاح عبر قنوات معتمدة في مناطق الاضطرابات والمعارك، مما خلق لتلك المجتمعات مشاكلاً كثيرة تتشابه في التأثير مع الانتشار الواقعي للسلاح في مناطق سيطرة الحكومة.
في وقت سابق، كانت هذه الظواهر مرفوضة مجتمعياً وهي لليوم كذلك. بل لوحظ أنه مع سقوط عشرات الضحايا في البلاد أن انتشار السلاح ومظاهره في مختلف المناطق يحقق نتائجاً "عكسية" أي رفض الحرب، ورفض استمرارها. إلا أنه من الجلي أيضاً أنه بوجود هذه الكميات الهائلة من السلاح والأعداد المستفيدة من تجارته الافتراضية والواقعية سيكون القادم السوري صعباً لجهة االخلاص من هذه الظواهر، وهو الدور الذي على الدولة القادمة ــ أياً كانت ــ أن تقوم به.