إفتتاحية

تقاطعات!

كيف يتم الجمع بين الحرية وبين الانتماء الى حالة واسعة تجمعها مشتركات كثيرة، تتعاون حين يلزم، وتتبادل الخبرات والمعرفة، من دون أن يعيد ذلك من جديد إنتاج بنية سلطوية، وإن بعنوان الثورة او اليسار

نهلة الشهال | 22 آذار / مارس 2018
إبراهيم جوابرة - فلسطين

اهتم "السفير العربي" بالاحتفال الذي أقامه موقع "ميديابارت" (Mediapart) الفرنسي، الرقمي والمستقل، لمناسبة بلوغه عامه العاشر. هذه الصحيفة الاستقصائية تصدّت للكشف عن قضايا كبرى كانت مستورة، ومنها مثلاً ملف عاد الى الواجهة اليوم مع توقيف الرئيس السابق نيقولا سركوزي وإحالته الى التحقيق، وهو يخص "صلاته" الليبية وتورّط السلطات الفرنسية في جانب من أحداث هذا البلد خلال 2011، بما فيها الكيفية التي قُتل فيها القذافي الخ.. وأما فلسفة هذه التجربة المميزة فتقول أن الصحافة المستقلة ليست حقٌ للصحافيين فحسب ليقوموا بعملهم بشكل لائق وفعال، بل هي من الحقوق الاساسية للمواطنين، للحصول على المعرفة كإحدى ركائز الديمقراطية، إذ "من دون هذه المعرفة فهم يمكن أن يصوّتوا لألد أعدائهم"..

الصحيفة التي ولدت مع الثورة الرقمية وبفضلها كما تقول، هي مستقلة بمعنى انها تعاونية يمتلكها العاملون فيها وتعتمد على مساهمات قرائها فحسب، بلا نشر للاعلانات وبلا دعم من أي جهة. وهي اختارت ان يكون الدخول الى صفحاتها بمقابل مالي من القارئ، يشبه الثمن الذي يدفعه لشراء صحيفة ورقية. وفي حينه، سخر منها فيلسوف النيوليبرالية (وأحد منظريها) "ألآن مينك"، قائلا أن الجردة الحسابية في آخر العام ستتكفل بانهاء هذه المحاولة الحمقاء.. ويعلّق الاعلان عن الاحتفال بالعيد العاشر أنها ليست المرة الاولى التي يخطئ فيها مينك، ولن تكون الاخيرة بلا شك.

حسناً، جميل كل هذا ومطابق لقناعاتنا. ولكن ما خصنا بالديمقراطية والحريات الأساسية والحقوق، وهو مستوى من التطلّب يبدو هنا، في بلداننا المنكوبة، ترفاً دونه الإفقار المريع والمتعاظم للكتل الأساسية من السكان وسحقهم بالحروب وبالقمع العاري؟ هل نكترث بهذا فيما ــ مثلاً ــ يموت المئات كل يوم بالقصف الذي تمارسه القوى العظمى على الناس في سوريا، واحدة تدعم نظام بشار الأسد وتحميه والأخرى تدعم معارضيه وتتلاعب بهم، وكلاهما يدعم فعلياً، وفي بداية المطاف ونهايته، نفوذه هو في إطار الصراع الدولي الدائر، وكذلك مصالحه المادية الملموسة (السياسية والاقتصادية) في منطقتنا وبشكل عام. فأي مواطنين في ظل هذا، أو في ظل ما يشبهه سوءاً، ولو بعناوين مختلفة، في العراق ومصر وسواهما، وفي فلسطين الواقعة تحت احتلال إلغائي...

إلا أننا، على الرغم من هذا الإدراك أو التحفظ، بقينا مشدودين الى تجربة ميديابارت تلك. ففي جوانب من الأمر هي تمثل تجسيداً لطموح يعنينا ويعني من هم على شاكلتنا، هؤلاء الذين نتقاسم معهم قيما وقناعات يقال فيها انها "مثالية" لأنها ترفض الخضوع للمستنقع الآسن في العالم كله، (ولو بدرجات مختلفة في عنفه)، وتتقاسم الإيمان بأن الطموح لسواه واقعي بل ضروري. وبخصوص الصحافة، فهي تُصدّق "مهمتها"، فلا تكون مبتذلة تطبل لمن يدفع أكثر، أو خانعة كاذبة تطأطئ الرأس أمام السلطة المهيمنة وحلفائها من حيتان المال والبزنس، أو معدومة الخيال تعتبر القائم أفق الممكن الذي ينبغي احترامه..

وقد قدم ميديابارت بمناسبة احتفاله بعيده العاشر صورة تلائم هذا الكلام. بإظهاره أولاً انه ليس استثناء (قد "يثبت القاعدة")، فدعا صحفاً رقمية أخرى مستقلة لمشاركته نجاحه، منها "we report" وهو تجمّع لصحافيين مستقلين من كل اوروبا، و"لاس أوريلاس" أو "الضفتين" من كولومبيا، حيث الصحافيون حتى أمس قريب كانوا الضحايا الاول لنظام قمعي أدار على ذلك حملة عسكرية استمرت عشرات السنين على جزء من البلاد، بدعوى محاربة تنظيم "القوى المسلحة الثورية"(Farc)، و"الضفتين" يشارك اليوم في الحوار الجاري لعقد تصالح وطني، أو "غراني" الروسية التي لا يمكنها الصدور في البلاد.. أو "مدى مصر"، زميلتنا في "شبكة المواقع العربية المستقلة" التي حجبتها السلطات عن البث في البلاد منذ ما يكاد يكون اليوم عاماً، مع 400 موقع مصري آخر، وحيث الصحافيون هم الضحايا الاول للقمع، وكذلك باحثة من تركيا، ومؤسس "انفو ليبر" من إسبانيا الذي ترك صحيفة "البايس" بعدما أصبح مستثمروها بنوكاً ومجموعات مالية كبيرة..

كما دعا ميديابارت في إحدى جلسات نهار الشهادات الطويل ذاك، يوم 16 آذار/ مارس، المعماري الشهير إيال فايزمان، الذي كتب "من خلال الجدران" متناولاً أساليب حرب المدن المعتمدة اسرائيلياً ضد الفلسطينيين، وأنشأ في لندن مكتباً معمارياً أسماه forensic architecture معني باستخدام التقنيات والعلوم الرقمية المطبقة في العمارة لتناول ما أسماه "تحقيقا مضاداً" بهدف الكشف عن قصور أو تواطؤ المحققين في جرائم ذات طابع سياسي أو عنصري. وهو أشار الى نشاطات المكتب في فلسطين المحتلة بوجه الجرائم الاسرائيلية، وعرض لمثال عن تحقيق مضاد أجراه مكتبه في المانيا وكان يخص جريمة قتل لشاب تركي ارتكبتها مجموعة من النازيين الجدد، وكان ثمة حاجة لاثبات تورط البوليس السري فيها، ومعه القضاء الذي سعى الى لفلفة الوقائع.. وبخصوص السلطات الاسرائيلية فقد أشار الى اطلاقهم لاسم "Palywood " عليهم (الذي يدغم فلسطين وهوليوود)، في محاولة للتشكيك بعملهم والايحاء انه من نسج الخيال، ولكن ذلك لا ينجح، بدليل فتح البرلمان الالماني لتحقيقين في موضوع الجريمة ضد المهاجر، بفضل ما قام به مكتبه الذي كُلّف من قبل روابط للمهاجرين وأخرى لأهالي الضحايا..

وفي اليوم التالي، جرت عروض مسرحية وسينمائية وموسيقية وسوق للمنشورات المختلفة وحفل راقص في المساء...

مقالات ذات صلة

تلك كلها "تقاطعات" فعلاً (وهو اسم الهيئة التي يصدر عنها "السفير العربي"!): بين مجموعات وأفراد يحافظ كل منها على حريته وخصوصيته وقدرته على المبادرة وحيوية ابداعه.. ولكنه ليس معزولاً ولا مبعثراً، إذ يدرك انه جزء من حالة واسعة تجمعها مشتركات كثيرة، وتتعاون حين يلزم، وتتبادل الخبرات والمعرفة، من دون أن يعيد ذلك من جديد إنتاج بنية سلطوية، وإن بعنوان الثورة او اليسار.

نهلة الشهال


أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"

نهلة الشهال


أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"

مقالات من العالم العربي

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...