"بدّك تضحي! كم تزعجني تلك الكلمة، أشعر بثقلها يرزح فوق صدري. ما حجم التضحيات المطلوبة منا؟ عليك ِأن تضحي بأحلامكِ وطموحاتكِ وأفكاركِ وكلّ ما يعبر عن ذاتكِ الفردية حتى تنالي الرضى من هذا المجتمع. كلّ ما تقومين به عليه أن يكون مرتبطًا بفعل التضحية. تتخلين عن دراستك لتربّي طفلك الذي تحققين ذاتك فيه، عائلتك هي كل ما تملكين، زوجك وأطفالك هو كل ما يتبقّى لكِ. أحلامك من أحلامهم، نجاحك من نجاحهم... ببساطة تصبحين فرداً بلا ذات، يبحث عن صورةٍ لذاته في مرايا الآخرين. لا أحد يملي عليكِ ما تفعلين، وليس هنالك من قانونٍ مكتوب يحدّد تصرفاتك، ويرسم ردود أفعالك، لكنك أنتِ من يختار سلوك درب التضحيات، فبالنهاية أنت زوجة وأم. هكذا تحددين هويتك.
فكرة التضحية تلك التصقت في عقولنا نحن الإناث قبل أن تغدو أشبه بقانون مسنونٍ يطالبها به الجميع، من الأهل إلى الأصدقاء. نحن من قبلنا أصلاً ن نكون كبش المحرقة، نحن من سمحنا لهم أن يُحكموا السيطرة على عقولنا قبل أجسادنا.
فالأنثى الصالحة هي التي تصمت وتختبئ خلف جدران السترة والخوف من التضحية بالعائلة على مذبح كرامتها وأمنها الشخصي. هي التي تسمح للرجل بأن يصوّب كلامه وصياته عليها، بوصفه كائنًا يحقّ له أن يفعل ما يشاء. وهي التي تربي ابنها على فكرة الصبي والبنت، شرفكَ من شرفها، أمّا شرفها هي فلا يتلوّث بما تقوم به أنتَ من أفعال.
نحن النساء من نربّي الوحش ونخرجه إلى المجتمع مخلوقاً ضارياً يفرّغ كلّ ما حقنّاه به على مر السنين في جسد وروح زوجته. نعلمّه أن لا يبكي، لأن البكاء ليس له. هو للنساء. نعلمه أن لا يعبّر عن عواطفه، أن يرفض الحب والحنان. نعلمه أن يصرخ مطالباً بما يريد. نعلمه كل ما يمنعه أن يكون زوجاً محباً وأباً عطوفاً.
جعلنا أجسادنا أرض مشاع، يرمي كل من يرغب بأسلاكه عليها، يرسم حدودها بما تقتضيه حاجته الشخصية. نحن من وافق، ومنحناهم بركاتنا، وصمتنا في وقتٍ كان علينا أن نضجّ بالصراخ. ما نعانيه ليس حكراً على منطقتنا، ولا على بيئتنا. ففي كلّ أصقاع العالم، المرأة هي الحلقة الأضعف. ورغم كل التشريعات التي سنت، ما زالت المرأة عرضةً للاغتصاب، وما زالت تعامل بدونية. لسنا وحدنا من نعاني على هذه الأرض، لكننا وحدنا من يفضّل الصمت، ويهرب من الحقيقة، ويفضّل الرضوخ للعذابات على الخروج مطالباً بأبسط حقوقه.
العدو اللدود للمرأة ليس الرجل، وليست التشريعات الدينية، ولا غياب القوانين الوضعية، بقدر ما هو المرأة بذاتها. المرأة التي ترضخ لكلّ ما يُفرض عليها بحجّة التضحية، التي تقبل أن تذوب في مفهوم العائلة، والتي تهزأ بأي كلامٍ يخالف ما اعتادت عليه، وتفضّل الصمت خوفا من خرابٍ يعم دارها.
جسدي ليس ملك أحد إذا لم أمنح أنا نفسي صكّ ملكيته، جسدي ليس ملك أحد لو امتلكته أنا ولم أسمح لأحدٍ، أيّ أحد، بالتحكم به قيد أنملة.
كل ما نراه من عنفٍ وصورٍ نمطيةٍ وتهميشٍ واحتقارٍ ودونية... صنعناه بأيدينا، ونحن المسؤولات عنه ومفتاح حله معنا، ولن يقدر أحدٌ على انتشالنا من دوامته إن لم نقرر نحن خطةً للإنقاذ. لا خوف من الكلام، من الفضيحة، من العار. المجتمع يهوى صناعة الكلام، يتغذى بالشائعات، ويتسلّى بمن يظن أنهم أضعف ساكنيه. ولكنه عصر النساء! من هنا تبدأ المسيرة.