عادة ما تطرح الثورات أفكاراً جديدة. أفكار الحركات السياسية المنتصرة في العالم العربي معروفة في جانبها السياسي والقانوني، داعية للاعتماد على الشريعة والديموقراطية كأساس لتنظيم الدولة والمجتمع. أما برامجها الاقتصادية، اذا وجدت، فلا تزال أقلّ وضوحاً. ما يوحي بأنّ هذه القيادات الجديدة لا تملك طموحات وأفكاراً جديدة، بخلاف ما كانت حال الحركات السياسية السابقة في المنطقة. ففي الخمسينيات، جرى القيام بالتأميمات والاصلاح الزراعي وبناء صناعات بديلة من الاستيراد.
اليوم، يجري تناول المسألة الاقتصادية في الخطاب السياسي للحركات الاسلامية من زاوية الفساد. وهذه مفارقة. فهذه الحركات انطلقت وتجذرت في الأرياف، وأطراف المدن، وفي المدن الزراعية، أي المناطق الفقيرة التي تأذّت من العولمة والليبرالية، كالاسكندرية والصعيد وضواحي تونس وريف دمشق وريف اليمن.
جاء الردّ على البطالة والفقر حاملاً شعارات دينية ومطالب العدالة والحرية. وقد أكّد خيرت الشاطر، نائب مرشد الاخوان (في مقابلة مع "الجزيرة" بتاريخ 8-2-2012)، ردّاً على سؤال حول برنامج حزبه الاقتصادي، أنّ إعادة الحقوق لأصحابها، كمياه الري (التي استخدمها النظام السابق لمصلحة جماعته)، كفيل بحلّ المشكلات الاقتصادية. وكذلك رأى أنّ "العدالة من خلال محاكمة الفاسدين هي وحدها الدواء للفقر والبطالة".
وعند قراءة برنامج حزب النهضة التونسي، نجد التأكيد نفسه على مفاهيم العدالة والفساد. لكن عند التطرّق الى النموّ الاقتصادي والبطالة، تُطرح مغالطات بعيدة عن الواقع. اذا يُقال مثلاً إنّ النمو الاقتصادي سيتمّ من خلال ازدياد "الطلب"، وكأن تونس بلد غربي غني، فيه الكثير من الادّخار!
وفي حقيقة الأمر، تصبو القيادات السياسية الجديدة الى إكمال البرامج الاقتصادية الليبرالية السابقة، مع إضفاء بعض العدالة. ما يعني أنّها "حركة تصحيحية" لليبرالية والعولمة. وسواء في تونس أو مصر أو المغرب، يجري الاعتماد على العلاقة مع صندوق النقد الدولي، وعلى النموذج التركي، وعلى أموال الخليج.
فهل تكفي مواجهة الفساد لكي ينجح الحكّام الجدد حيث فشل الحكّام السابقون؟ لماذا سينجح الغنوشي حيث فشل بن علي؟ لماذا سينجح الاخوان والسلفيون حيث فشل مبارك، في تطبيق الليبرالية الاقتصادية واستجلاب الأموال من صندوق النقد الدولي ومن الخليج العربي؟ من قال إنّ الحكام السابقين فشلوا في تطبيق الليبرالية ووصاياها العشر حسب "توافق واشنطن"؟
سيحدث العكس تماماً. ففي أوائل كانون الثاني 2011 (عشية سقوط بن علي)، أشار "مؤتمر دافوس" الى تونس كبلد نموذجي في بنائه الاقتصادي. أمّا تقارير صندوق النقد الدولي، فأشادت بالسياسة الاقتصادية للحكومة المصرية، كما قالت إن سوريا تسير على "الصراط المستقيم" في ما يخصّ فتح الأسواق وخفض المعونات. صندوق النقد الدولي يشيد منذ 5 سنوات بانفتاح دول العالم العربي، بينما أطاحت هذه السياسة الانفتاحية نفسها بالأنظمة بعدما وضعتها في مأزق.
في آخر تقارير صندوق النقد الدولي كلام جديد. اذ تشير الى حاجة مصر ل8 - 10 مليار دولار لسدّ عجز الميزانية للسنة الحالية. ويتّجه الصندوق الى إعطاء مصر 3.5 مليارات دولار على شكل دين، بعد مفاوضات مع المجلس العسكري والأحزاب المنتصرة في الانتخابات. ولكنه يربط ذلك بشروط محددة، تتلخّص باتّفاق كلّ السلطات في مصر على تطبيق تلك الوصايا العشر، ولا سيّما منها فرض ضريبة موسّعة على القيمة المضافة (TVA) . وكانت دول الخليج، بوصفها مانحة ومقرضة، قد حضرت الاجتماعات بين الطرفين، بما يشبه حضور السعودية في اجتماعات باريس بخصوص لبنان.
ولفهم الوضع المتفجّر للمنطقة، لا بدّ من إضافة العنصر الديموغرافي الى التفاوتات الاقتصادية الداخلية والخارجية، لا سيما أن معدلات النموّ السكاني فيها هي من الأعلى في العالم (9% خلال 4 سنوات في مصر). الانفتاح الاقتصادي للدول غير النفطية، والتراكم السريع للأموال في الدول النفطية، سمحا لدول الخليج بالتدخل بـ"حرية" في سائر الدول العربية، من خلال مساعدتها أطرافاً أصبحت لاحقاً في السلطة.
ولكن هل ستتمكّن الحكومات الجديدة من أن تستجلب الرساميل للاستثمار في بلادها؟ وفي أي مجالات ستكون تلك الاستثمارات؟ يهلّل اقتصاديو صندوق النقد الدولي ومثقفو السلطات الجديدة للنموذج التركي، معتبرين أنه الحلّ. فتركيا أصبحت ليس فحسب نموذجاً "للديموقراطية الاسلامية"، بل أيضاً للاقتصاد، اذ كانت معدلات النمو الاقتصادي فيها، منذ مجيء أردوغان الى السلطة، هي الأعلى في المنطقة.
ولكن هذا النموذج "المعجزة" المنبثق عن "الوصايا العشر" هشّ للغاية ومعرض لمشكلات مستقبلية، مثلما حصل لدول أميركا اللاتينية حين طبقت النموذج نفسه في التسعينيات. النموذج الاقتصادي التركي قام على تراكم الدين الخارجي (40 % من الدخل القومي)، وعلى عجز هائل في الميزانية التجارية، ولم يتمكن من امتصاص البطالة عن العمل، اذ بقيت النسبة قريبة من نسب البطالة في المنطقة (مثل مصر وسوريا، أي حوالي 11%). أمّا التضخم فوصل السنة الماضية الى حوالي 9%. وترافق هذا النموّ الاقتصادي مع تفاوت اقتصادي كبير عيَّنه مؤشر "جيني" (الذي يقيس اللامساواة على مستوى توزيع الدخل أو الاستهلاك الكلي) بالنسبة لتركيا بـ(40%)، وهو أعلى مؤشر في المنطقة. وهذا يعني أنّ اللاعدالة الاجتماعية مرتفعة جدا هنا.
ونتيجة كل ذلك، بدأ صندوق النقد الدولي يفرض شروطاً قاسية على تركيا باعتراف أردوغان بنفسه. وهذه، كالدول العربية غير النفطية، ستكون بحاجة الى الرساميل الخليجية لإعادة جدولة ديونها. فكما أن الديموقراطية التركية أثبتت حدودها (الأقليّات، اعتقال الصحافيين...)، كذلك ستصطدم المعجزة الاقتصادية التركية الحالية بنموها غير المتوازن، خاصّة أن ارتفاع أسعار النفط والمواد الأولية سيؤدي الى انخفاض النمو في الدول غير النفطية بمعدل 2% سنة 2012، (حسب صندوق النقد الدولي).
في ظلّ أزمة الغرب، لن يكون لهذا النموذج الليبرالي أيّ حظ في النجاح إلا اذا تمّ تحويل الفائض الرأسمالي من دول الخليج الى الدول غير النفطية. فهل ستؤمّن دول الخليج كل تلك الرساميل لأصدقائها الجدد، هل سترضى بتقاسم ثرواتها الريعية معها، ما يبدو أنه المخرج الوحيد أمامها ما دامت لا تفكر باستنباط سياسة اقتصادية تنموية؟
---------------------------
الوصايا العشر
"الوصايا العشر" هي أسس الليبرالية الاقتصادية كما عينتها مجموعة من الاقتصاديين في واشنطن سنة 1989، وتبناها لاحقا "صندوق النقد الدولي": فتح الحدود، التخفيف من تدخل الحكومات في اقتصاد البلد، الخصخصة، خفض المعونات الحكومية، إلغاء التعرفة الجمركية، ووضع ضريبة على القيمة المضافة. هذه الضريبة هي الأقل عدالة لأنها تطال الفقير أكثر من الغني، إذ تضاف على سعر السلع الاستهلاكية ولا تتقرر وفق المداخيل.