ما هو القاسم المشترك بين روسيا وإيران واليونان؟ العقوبات المالية والاقتصادية! ولأول مرة في التاريخ تستطيع القوى الاقتصادية الكبرى أن تفرض سيطرتها أو شروطها على دول أخرى عبر الحلقة الاقتصادية. ففي السابق لم يكن ذلك ممكناً والأمثلة عديدة ( ألمانيا بين 1930 و 1938والعراق في عهد صدام..)، فكان التدخل العسكري ضرورة لفرض الشروط على الخصم او العدو. أما لماذا أصبح هذا ممكنا الآن، فجوابه يكمن في الهيمنة الأميركية المالية وإمكانية مراقبة مصارف الكرة الأرضية بأدق التفاصيل بالإضافة إلى مراقبة المواصلات والاتصالات.
اليونان
اليونان هو البرهان الأكبر على أن الاستقلالية الاقتصادية والسياسية لبلد ما، حتى ولو كان ينتمي إلى الدول المتطورة قد انتهت. فعملياً، استطاعت ألمانيا في غضون 6 أشهر إلغاء نتائج انتخابات ديمقراطية، وإلغاء نتائج استفتاء الشعب اليوناني، بعد أقل من شهر، وفرضت كل شروطها على الحكومة اليونانية، أي عينت كيفية سير هذا البلد بعد الآن على كل المستويات، على المستوى العام وفي التفاصيل، كفتح المحلات يوم الأحد وتمكنت من إلغاء كل القوانين التي صوت عليها البرلمان منذ مجيء تسيبراس إلى السلطة.
كيف استطاعت ألمانيا ان تفعل ذلك دون أي حرب؟ من خلال الدين العام والبنك المركزي. فالحكومة الجديدة لم تعمد إلى سن قوانين تمنع هروب الرساميل، كما فعلت قبل ذلك قبرص مثلا، وأصبحت بالتالي رهينة الرساميل الأوروبية عبر "صندوق الاستقرار الأوروبي" ( أي بشكل أساسي ألمانيا). ومن جهة أخرى أصبحت المصارف اليونانية تحت رحمة البنك المركزي الأوروبي الذي قطع السيولة عنها، صحيح لمدة قصيرة، ولكنها كانت كافية لإركاع القطاع المصرفي واغلاق أبوابه. فلا الانتخابات ولا الاستفتاء كانا كافيان لتغيير مسار السيطرة الأوروبية (الألمانية خاصةلأنها الحلقة الاقوى!) على اليونان، حتى يمكن التأكيد أن ما حصل في اليونان من اتفاقات مع أوروبا شبيه بالاتفاقات التي تعقد بين بلد مهزوم عسكرياً مع البلد المنتصر. ولكن دون حرب هذه المرة.
إيران
يتساءل الإنسان من المنتصر في الاتفاق الإيراني ـ الأميركي؟
للجواب على ذلك يجب النظر إلى مسألتين: ما هي مطالب إيران والمجتمع الدولي؟ الأولى تريد فك الحصار، الثاني يريد التأكد أن إيران لن تتمكن من انتاج قنبلة نووية خلال الـ10/15 سنة المقبلة. بهذا المعنى، الكل حصل على ما يريده. إلا انه يجب ألا ننسى ان الغرب بادر بالحصار والعقوبات، حتى ان بعض الدول كفرنسا لم تفِ بالتزاماتها تجاه إيران، إذ رفضت إعادة الأموال المسلفة لبناءالمصنع الكهربائي النووي. ولم تتمكن إيران أبداً من فك هذا الحصار، فبادرت للتصعيد من خلال التخصيب النووي.. الامر الذي أدى إلى تصعيد العقوبات. المعادلة كانت التخلي عن التكنولوجيا النووية مقابل فك الحصار والعقوبات. لا داعي للدخول في متاهات ما أجبر الغرب على الوصول لاتفاق، فليس سلاح إيران النووي هو ما يفزعها، إذ أن الولايات المتحدة لديها من السلاح النووي ما يمكّنها من تدمير الكرة الأرضية. بل الجواب جواب يكمن في إستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية الجديدة على الصعيد العالمي، وبالتحديد في الشرق الأوسط وفي روسيا والصين...
ما يهمنا الآن هو فعالية الحصار والعقوبات المالية على إيران. من الواضح ان التدابير كانت فعالة من ناحية التأثير على الدخل القومي والتضخم والبطالة الخ.. وان هذا ما كان يمكن ان يتم لولا المعطيات المالية والاقتصادية العالمية الجديدة أي العولمة والسيطرة الأميركية على القطاع المصرفي العالمي. فلقد استطاعت الولايات المتحدة ان تفرض على كل شركات العالم، أميركية او سواها، عدم التعامل مع إيران في قطاعات معينة، على الأقل. وهذه سابقة خطيرة لأنها فعالة، إذ امتنعت حتى الصين وروسيا من مساعدة هذه القطاعات خوفا من ردود فعل الادارة الأميركية التي استطاعت في ظرف معين ان تنال قرارا من الأمم المتحدة بهذا المعنى. وبالتالي فإن الحصار كان شبه عام، ورأينا الإدارة الأميركية تفرض عقوبات ضخمة لا سابق لها على البنك الفرنسي BNP (9مليارات) لأنه تعامل مع إيران، حتى لو كان ذلك التعامل في قطاعات غير إستراتيجية. فهي غرامات لم تقم بسبب تسهيل بناء مفاعلات نووية مثلا، بل لمعاملات تجارية.
روسيا
أُسقطت الحكومة الأوكرانية في الشارع من خلال انقلاب عسكري كما حصل في التشيلي (أليندي) وفي إيران (مصدق)، وفي العديد من الدول الأخرى، فردت روسيا عسكريا للمحافظة على واحدة من أهم قواعدها العسكرية في العالم، في القرم. تبع ذلك عقوبات على روسيا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا. وإذا كان من الواضح ان لواشنطن مصلحة في تلك العقوبات وانها لن تؤثر على اقتصادها، فمن غير المفهوم لماذا وافقت أوروبا عليها، خاصة وان كل استراتيجيتها في أوكرانيا فشلت. فإنهاض أوكرانيا الاقتصادي وتثبيت وضعها السياسي يفوق إمكانيات أوروبا حالياً، والوضع الداخلي الأوكراني، سواء لجهة الاقتصاد أو السياسة، سيكون عما قريب أسوأ من وضع اليونان. لكن الأوروبيين يعلمون علم اليقين أن أي تصدي للولايات المتحدة في هذا الظرف خطرعلى أوروبا نتيجة لعدة عوامل: أزمة اليونان+ اتجاه الولايات المتحدة للاستقلال عن مصادر الطاقة الخارجية مما يجعل أوروبا ضعيفة تجاه نفط الشرق الأوسط وروسيا.
رضخت ألمانيا للولايات المتحدة (وهذا بالرغم من فضيحة التجسس على ميركل من قبلها) لأن سعر الطاقة لم يرتفع بل انخفض كثيراً نتيجة قرار السعودية بعدم تخفيض الإنتاج في اجتماع الاوبك. فإذا كان شق الرضوخ الأوروبي له أسبابه، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف استطاع الغرب أن يلحق كل هذا الأذى بروسيا، من انحسار وتضخم وانخفاض سعر الروبل بشكل هائل، دون أن يؤثر ذلك عليه اقتصادياً هو نفسه. الجواب هنا أيضاً هو الهيمنة الغربية على القطاع المصرفي الذي اوقف أكثر المعاملات التجارية، بينما لا تستطيع روسيا ان تهدد الغرب اقتصاديا لأنها تستورد السلع الاستهلاكية من الغرب ولا تصدر سوى الغاز والنفط، التي انخفض سعرها بشكل دراماتيكي.
المشكلة أن أي تهديد روسي بإيقاف الغاز والنفط عن أوروبا سينعكس سلبا على روسيا أكثر منه على أوروبا في الوقت الحاضر، إذ ان ارتفاع سعر النفط والغاز سيؤدي إلى ارتفاع انتاج الغاز الصخري في الولايات المتحدة، فتستغني تلك الأخيرة عن الاستيراد من الشرق الأوسط، وبالتالي يمكن التعويض على أوروبا من فائض النفط الخليجي، خاصة وان الاحتياطي النفطي في أعلى مستوياته. وإذا اضفنا إلى ذلك ان الاحتياطي الروسي من العملة النادرة سينخفض كثيرا خلال ال 3 أو 4 سنوات المقبلة، فهمنا ان الولايات المتحدة تملك بين يديها أوراقاً اقتصادية كثيرة متعلقة بروسيا، وان مضايقة بلد كروسيا (ثاني أكبر بلد نووي على الكرة الأرضية) لم يكن ممكنا لولا سيطرة الغرب وبالتحديد الـولايات المتحدة على المصارف والأسواق المالية التي تستطيع التلاعب من جهة بالروبل عبر العقود في سوق شيكاغو، ومن جهة أخرى منع أي شركة من التعامل مع روسيا إلا بشروطها.
يبقى ان هذه الإستراتيجية الأمريكية التي تكمن في إطالة هذا الوضع (العقوبات، التطويق) بهدف إضعاف موقف روسيا في أية مفاوضات ليست جديدة.. ولكن ما هو جديد هو فعالية القرارات وخاصة تنفيذها. فدخول روسيا منظمة التجارة العالمية وإخضاع سعر الروبل للسوق العالمي والخصخصة الخ.. أي إخضاع الاقتصاد الروسي لقوانين العولمة، وخاصة لقوانين المصارف الغربية، أضعف من إستقلالية سياستها الاقتصادية. فروسيا تعتمد على تلك المصارف للحصول على الرساميل ولمعاملاتها التجارية. والمصارف مجبرة على فتح حساباتها في كل الأوقات للحكومات الغربية وخاصة الأميركية.. ما يوضح مدى فعالية العقوبات، بالإضافة إلى أن اكثر حسابات الأثرياء موجودة في تلك المصارف. وربما هذا قد يفسر محاولة بنك HSBC، نقل مقره العام من لندن إلى آسيا.
هيمنة أميركا على النظام المصرفي من خلال تدابير معينة (من قبيل ما أتاحه باتريوت اكت مثلا من رقابة من ضمن "الحرب على الارهاب" بعد 2001)، إضافة لحجم التعامل العالمي بالدولار (حوالي 70 في المئة من المعاملات التجارية العالمية)، ولسيطرتها على الاتصالات.. يعطيها قدرة كبيرة على مراقبة وعقاب من تريد. وإمكانية التدخل الفعال في أسعار الطاقة منذ بداية 2015، ولو لمدة من الزمن، يسمح لها باستخدام القوة الناعمة Softpower بدلا من القوة العسكرية كأداة هيمنة ولفرض نفوذها.
المانيا، وعلى الرغم من ان قوتها تكمن باقتصادها (أول بلد مصدر في الكرة الأرضية)، تماما كما كانت قبل الحرب العالمية الأولى، وتعاظَم الفارق بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى، ولكنها ليست قوة عسكرية ولاهي مسيطرة على النظام المصرفي، بل هي قوة اقتصادية فحسب وليس مالية.. وهي بالتالي تبقى رهينة أميركا في سياستها الخارجية، خاصة بما يتعلق بالعقوبات وبالسياسة النفطية.
خلاصة
إستراتيجية أميركا في هذه المرحلة تقوم على ثلاث محاور:
- العدو الرئيسي هو روسيا.
ـ عدم السماح بإنتصار بلد على اخر في منطقة الشرق الأوسط (إسرائيل، إيران، السعودية، تركيا)
-فرض سياستها الخارجية على أوروبا وذلك عبر السيطرة المالية (الدولار والمصارف)، ومن خلا ل البقاء كحكََم في سوق النفط .
الا ان هذه السيطرة، وبهذه الطريقة، لن تدوم طويلا نتيجة لعدة عوامل، منها الدين العام الأميركي الكبير وبداية نشؤ نظام مالي بديل. ومن المؤكد أن يحاول الرئيس الأميركي المقبل إعادة تنظيم العولمة بما يتلاءم مع المعطيات الجديدة، تماما كما حصل في اتفاق بريتون وودز 1945، وسقوطه في 1972، ثم وصايا واشنطن 1990.