رونالدو في الرباط.. الاقتصاد السياسي للكرة

تلقيت دعوة لندوة صحافية فيها كرة قدم وغناء. وما علاقتي أنا بهذا؟ تابعت فحص مقالاتي لأختار أقربها للنضج فأختم صياغتها. لاحظت أني مهدد باستنفاد المواضيع التقليدية للسوسيولوجيا، وهذا أمر مرعب للسوسيولوجي البصّاص. لذلك ذهبت للندوة بحثاً عن آفاق جديدة. وجدت فندقاً كقلعة في قلب الدار البيضاء. أبيض من الخارج لكن كله أسود من الداخل بفضل الرخام الفاخر الذي يتضاعف في المرايا بشكل لا نهائي.
2014-12-17

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
(من الانترنت)

تلقيت دعوة لندوة صحافية فيها كرة قدم وغناء. وما علاقتي أنا بهذا؟ تابعت فحص مقالاتي لأختار أقربها للنضج فأختم صياغتها. لاحظت أني مهدد باستنفاد المواضيع التقليدية للسوسيولوجيا، وهذا أمر مرعب للسوسيولوجي البصّاص. لذلك ذهبت للندوة بحثاً عن آفاق جديدة.
وجدت فندقاً كقلعة في قلب الدار البيضاء. أبيض من الخارج لكن كله أسود من الداخل بفضل الرخام الفاخر الذي يتضاعف في المرايا بشكل لا نهائي. استقبلتُ بالعصائر والحلويات، ودخلت قاعة ممتلئة، وليس مثل قاعات الندوات الأدبية التي لا يحضرها إلا منظموها. هناك تجهيزات جديدة هنا وما يكفي من الميكروفونات، وكراسٍ دافئة وأرضية مفروشة.. بخلاف قاعات الندوات الأدبية الباردة والجائعة وذات الميكروفونات المعطلة.
في الدار البيضاء أجد نفسي في أمكنة لم أعتدها. وهذا يوفر لي مواضيع لم يسبق لي تناولها. نحن هنا في عالم كرة القدم. سينظم المغرب الموندياليتو للمرة الثانية على التوالي. في السنة الماضية كان حفل الافتتاح مخجلا للمغاربة، لأن فيه راقصة شعبية تظهر للكاميرات صغيرة وتائهة على العشب الأخضر المترامي. كان "أكبر مهزلة في تاريخ الافتتاحيات". ولكي لا تلدغ "الجامعة الملكية لكرة القدم" من الفايسبوك مرتين، فقد تعلمت الدرس ولم تكرر الخطأ. ولا بد للتعلم من ثمن.
يأتي تنظيم الموندياليتو بعد فقدان فرصة تنظيم كأس أفريقيا خوفاً من وباء إيبولا الذي قتل 6388 شخصاً في أفريقيا الغربية. وهذا ما جعل المغرب يطلب تأجيل تنظيم المسابقة كي لا يجلب الأفارقة إيبولا إلى مراكش. لكن عيسى حياتو، قائد المناسبة رفض. وقالت الصحف المغربية إن للجزائر يداً في ذلك. فكُرةُ القدم سياسية أيضاً.
لهذا السبب، حظي تنظيم الموندياليتو باهتمام أكبر. سيأتي ريال مدريد إلى الرباط. وهذه فرصة لتسويق المغرب. لتشجيع السياحة الرياضية. وقال ممثل اللجنة المنظمة في الندوة الصحافية إن "متطلبات الأندية الأوروبية تفوق متطلبات المنتخبات الأفريقية"، أي أن كريستيانو رونالدو أهم من منتخب أفريقي. والمغرب جاهز لاستقبال النجوم.
بعد ذلك تم تقديم أغنية ترويجية للموندياليتو ستقدم في حفل الافتتاح يوم 10 كانون الاول/ ديسمبر. سيفرح الجمهور. والفرح حق من حقوق الإنسان. وحسب معد الأغنية ومؤديها فهي أغنية عن المغرب ناطقة بالإنكليزية، اللغة العالمية للوصول إلى متابعي الموندياليتو.
قال معد الأغنية، وهو الذي وضع أغنية ريال مدريد، إن هذه فرصة للمغرب. وأضاف أنه سعيد لأن فريق مدينته تطوان شمال المغرب سيشارك في الموندياليتو. وتمنى أن يحقق الفريق نتائج جيدة مثلما فعل فريق الرجاء البيضاوي الذي بلغ نهائي الموندياليتو ولعب ضد بايرن ميونخ في 2013.. دب الحماس في أوصال الحاضرين في الندوة وأطلق المنظمون الأغنية. وهكذا صارت التوقعات عالية من الفريق المغربي التطواني الذي نتمنى أن يهزم ريال مدريد.
في الندوة تكررت كلمات الفرح. تمنح الكرة يوتوبيا جديدة للبشر. الكرة موضوع إجماع. وبخلاف تشنج الندوات الأدبية، مرّت ندوة الكرة خفيفة تناسب مزاج الشباب. لذلك عطّلت عقلي النقدي لأدخل السياق بدل أن ألاحظه من الخارج. سادت الندوة روح وطنية عالية. وبعد الندوة وجبة دسمة. وسيكون المرء جاحداً للكرة إن لم يشكر المنظمين ويلعن ندوات الأدب.
منذ أيام، مساء العاشر من كانون الأول/ديسمبر، كانت كل كاميرات العالم مسلطة على الرباط. كان حفل الافتتاح فخماً، فيه نشيد وطني من أداء أسماء المنور وتلك الأغنية الخاصة بالموندياليتو. المغرب على شاشات 151 دولة طيلة عشرة أيام. هذه فرصة غير مسبوقة للتعريف بالبلد الصغير سكاناً واقتصاداً، لكن الغني بما راكمه من رأسمال عمراني ولا - مادي طيلة قرون من الاستقرار السياسي الذي تخللته فترات جد قصيرة من القلاقل غير الدموية!
مسح حفل الافتتاح الصورة السابقة تماماً. جاءت الجائزة سريعاً: الفيفا تشيد بحفل الافتتاح. صارت الكرة تستخدم الغناء أيضاً. الكرة هي ملحمة العصر لأن الشعوب تعرِّف بها نفسها. أكبر دعاية لأي دولة هي كرة القدم.
المغرب تحت الأضواء. رونالدو في الرباط. إذن الرباط بخير. جاء آلاف الجزائريين للمغرب لمساندة فريقهم وفاق سطيف. سيكتشفون أن المغاربة لا يكرهون الجزائر. سيحضر عيسى حياتو ـ الذي حرمنا من تنظيم كأس أفريقيا ـ مع جوزيف بلاتر ديكتاتور إمبراطورية كرة القدم.. نجحت الدعاية. بدأت المنافسة بالرّكب على العشب الأخضر، لنر النتائج ومزاج الشعب.
لعب فريق المغرب التطواني ضد فريق أوكلاند سيتي النيوزيلاندي.
أين تقع نيوزيلاندا؟ لا يهم. لدى النيوزيلانديين مدرب أسباني. هكذا عثرنا على عدو تاريخي. فإسبانيا قد هزمت المغرب في معركة "حرب تطوان" سنة 1859 واحتلت شماله وهزمت عبد الكبير الخطابي في حرب الريف ونفته. هذه هي الفرصة لتسوية الحساب مع الإسبان الذين يعرقلون الآن وصول طماطمنا لأسواق الاتحاد الأوروبي.
مع هذا الشحن العاطفي والسياسي جلست الجماهير المغربية أمام الشاشات وقد نسيت الفيضانات والأسعار وداعش وغزة. وقد كانت الصدمة شديدة. خرج ممثل المغرب في المسابقة من المقابلة الأولى. تبدد الحلم في الميدان. انطفأ دفعة واحدة، مثل محرك سيارة ساخن صُبَّ عليه دلو ماء. صمت رهيب في المقهى.
بعد الصدمة تدفقت السخرية لتصنع عزاءنا.
العزاء الراقص: قال المعلقون إن الراقصة كانت فأل خير. أنا أيضا واثق أن الراقصات فأل خير على كل من يعطفن عليه. فهو لن يصاب أبداً بالفقر الوجداني.
العزاء السياسي: هزمنا النيوزيلانديون وليس الأسباني. وأن يقصينا النيوزيلنديون أفضل من أن يقصينا الجزائريون. من حسن الحظ ان النيوزيلانديين هزموا الجزائريين أيضاً. لا يمكن التفكير في الكرة من دون التفكير في السياسة. أردت أن أشرح كرة القدم بالسياسة، فوجدت أن كوندليسا رايس تقول "كرة القدم هي مثل الحرب، وهي تتعلق بالاستيلاء على الأرض". أي أنها تشرح السياسة بكرة القدم.
العزاء المزعج للوحدة الوطنية: تصرَّف أنصار الرجاء بشماتة في الفريق القادم من الشمال، من الأقاليم. ليس لمناطق المغرب القيمة نفسها إذاً. الفريق القادم من مدينة تطوان ليس عالميا إذاً. وحده فريق الرجاء البيضاوي عالمي. الجواب على بؤس المحلي هو العالمي. العالمية عقدة لدى المغاربة.
مع فخامة الافتتاح وبؤس الإنجاز، بدأت الأسئلة الحقيقية تظهر: لماذا هزمونا؟
اندلعت معركة كلامية بين مدرب الفريق الخاسر ومهاجمه. حيث يوجد النزاع يوجد الفشل. وبما أن الفريق أقصي في الركلات الترجيحية فإن الحظ هو السبب. في الندوة الصحافية قال مدرب الفريق الخاسر "لسنا إلا المغرب التطواني والحمد لله على الإقصاء". من يمكنه الاعتراض على قضاء الله الكروي؟
هذا تبرير قدري للفشل الذي سببه النزاع البيني. تشلّ النزاعاتُ حيثما كانت الدول والحكومات والفرق والأسر. هكذا بدّد النزاع الحلم. لدينا عزاء جديد: لسنا أقل من إمارة قطر وسيعمل المغرب على تنظيم مونديال 2026 الذي تقرر أن يكون في أفريقيا. هكذا تبني الكرة للبشر يوتوبيا جديدة. في عالم كرة القدم لا مكان للضجر. الكرة تسلي الشعوب، وتجعل البلد يُذكر في كل الشاشات. لذا فالحكومات تتسابق على تنظيم المنافسات الكروية بجد مهما كلفها ذلك. والربح المالي والسياسي مضمون.

 

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه