يسرع سائق التاكسي الصغير ليوصل الزبون ويحمل غيره. تقع عجلة السيارة في حفرة وسط الطريق الإسفلتي. يخفض السائق السرعة، يمشي بحذر كلما اقترب من حفرة، يمسك شفته السفلى. يقع في الحفرة فينكمش وجهه. يعبر الحفر في شارع الأديب محمد زفزاف فيدعو على عمدة الدار البيضاء بما لا يمكن تصوره. لكن العمدة رجل أعمال كبير توحدت فيه سلطتا المال والسياسة، لذا فهو محمي بالحصن الحصين.
الحفر مثل أفواه مفتوحة تعض العجلات. وهي حين لا تصلح يزداد اتساعها. حفر صغيرة تمر بها شاحنات عملاقة فتتسع، بعضها مستدير وبعضها مستطيل وبعضها لا قعر له. مع طول الإهمال صارت هناك حفر مشهورة لدى السائقين يتجنبونها، وهناك حفر محدثة يقع فيها السائق فجأة فتصيب الضربة قلبه مباشرة، وقد تطير عجلة سيارته فتتسلط عليه أزمة اقتصادية.
مع كل ضربة تتآكل العجلات وممتص الصدمات، عندما تمر السيارة فوق حفرة تتزعزع قاعدة الراكب، أما عندما تكون الراكبة امرأة حامل فالمخاض يداهمها في الحين ويدعو الجنين على العمدة "اللهم سلط عليه إيبولا".
يتكرر هذا آلاف المرات في اليوم. في شوارع محفّرة فيها تراب وزبالة.. تحصل طفرة حفر في الشتاء خاصة وأن الشبكة الطرقية عاجزة عن تحمل كثافة الحركة الناتجة عن التطور السكاني والاقتصادي. وكلما كانت الحفر كبيرة كان ضررها على السيارة أكبر. وكلما كان الضرر كبيرا كان دعاء السائق قانطا. سائق التاكسي يدعو للعمدة بالعقم والسرطان والكوليرا. لا ملاذ للسائقين غير الله.
كم من حفرة في شوارع الدار البيضاء؟ سيارات الأجرة مهترئة مفككة قديمة.
بعد عام من الجري بين الحفر يكون السائق مجبرا على فحص السيارة لتأكيد أهليتها للتجوال. هنا يدفع السائقون ثمن كل الدمار الذي سببته الحفر لسياراتهم. دخلت هذه الدوامة بعد أن تجاوز عمر سيارتي خمس سنوات، فصرت ملزما بإجراء فحص دوري لها. لتجنب المفاجآت أخذتها للمحل الذي اشتريتها منه وفحصوها. بعدها ذهبت للدكان الذي كلفته وزارة النقل بمنح وثيقة الفحص. من لا يحمل وثيقة فحص إيجابية ستوقفه الشرطة وتعقد حياته. لهذا يقلق السائق على صحة السيارة أكثر مما يقلق على صحته. يفحص السائقون سياراتهم أكثر مما يفحصون أجسادهم.
وصلت باب مركز الفحص في الثامنة إلا ربعا. كان هناك طابور سيارات بعضها مهترئ. على المركز أن يفحص يوميا أربعين سيارة فقط. وبما أن ربع سيارات المغرب توجد في الدار البيضاء، فيمكن تخيل زحام التسابق.. بعد ساعتين حل دوري. سيارتي بخير. فقط طلب مني المراقب تغيير لوحة الترقيم لأن الشرطة قررت تغيير البنط الذي كتبت به ليكون أوضح. كلام الشرطة لا يُرد.
بعد الفحص، يجب انتظار ساعتين لطبع الوثيقة المجيدة. لكي لا أنفجر ضد نفسي جلست في شرفة مطعم يطل على البحر. انسحبتُ من قلب المشكلة للحظة لرؤية الوضعية من الخارج وأكتب. يوجد مركز الفحص التقني في الحي الصناعي. ويوجد الحي الصناعي على الشاطئ، لذا ليس غريبا أن يصير الشاطئ مزبلة. وعلى بعد أمتار من الماء أكواخ قصديرية واطئة على الرمل حولها كلاب وأطفال. الدار البيضاء ليست عالما واحدا، إنها عوالم متجاورة متداخلة متناقضة، والأمكنة تفاجئ باستمرار.. حتى في قلب المدينة خرابات. هناك محطة تحويل كهربائي حديدية على قاعدة خشبية تتفكك. وعلى باب الصندوق الحديدي الكبير تحذير "خطر الموت". شارع الأمير مزبلة. جرى التآلف مع القبح بسبب رمي النفايات لأن الشارع ملك عمومي. ليس بمعنى أن للجميع الحق فيه وتجب المحافظة عليه، بل هو عمومي بمعنى أنه ملك مشاع يفعل فيه كل شخص ما يريد. ومن يلوم شخصا على ذلك يجيبه "وهل هو شارع أبوك؟". يحكى أن شخصا مثل هذا اشترى سمكة وبدأ يشمها من ذيلها. قال له البائع شُمْ الرّأس. أجاب: أعرف أن التعفن اصاب الرأس، أريد أن أعرف هل وصل الذيل.
وصل. يقول جورج أورويل "إن الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة".
مر عام ونصف على نقد الملك محمد السادس لتسيير مدينة الدار البيضاء، ومع ذلك لم تزل الحفر والمزابل. وهنا خرجنا من الحفر إلى سياستها. ينفق المغاربة الكثير على السكن والتنقل ولا يتبقى لهم ما ينفقونه على الثقافة وهي أم السياسة. وبما أن السياسة محفرة ستبقى الطرق كذلك. صحيح أنه قبيل زيارة الملك للمدينة رقعت البلدية الحفر التي قد يجدها في طريقه، وتركت أخرى. وهذا الترقيع استهتار رهيب بمصالح الناس وكرامتهم. وبنود فلسفة الترقيع هي:
أولا استغباء الناس. ثانيا قصر النظر. ثالثا شطارة المسؤولين. رابعا الاقتصاد في التكاليف. خامسا سرعة إنجاز الترقيع بينما الإصلاح الحقيقي يحتاج زمنا. سادسا الشعب تعود على الحفر وسيقبل كل ما يحصل له.
وتعمل هذه البنود باستمرار في مجالات كثيرة في المغرب. من يراقب طريقة الترقيع يستنتج أنه توجد حفر في العقول وفي الطرق. في بعض الأماكن تكفي إصلاحات صغيرة ولكنها لا تُنجز. هذا الإهمال ليس صدفة أو لنقص التمويل، إنه تعبير عن احتقار المسؤولين للناس بوصفهم أغبياء. بدليل أنه ما أن تقترب الانتخابات حتى تنطلق حملة شرسة لترقيع الواجهة ليلا ونهارا، وحينها لا تكون الميزانية مشكلة.
أين الخلل؟
تجري السياسة في الدار البيضاء في زحام شديد، لأن هناك 220 منتخَبا موزعين على 16 مقاطعة انتخابية يسيّرون من خلالها المدينة. وهم الآن غاضبون لأن وزارة الداخلية ستغير البنية الانتخابية وستقلصها إلى 8 مقاطعات وتخفض عدد المنتخَبين إلى 137. سيفقد هؤلاء 83 مقعدا وتعويضا في انتخابات حزيران/ يونيو 2016. من حق المنتخَبين أن يغضبوا لخسارة الولائم. واضح أن العمدة مشغول بحفر السياسة عن حفر الشوارع. ثم إنه لماذا سيصلح الطرق بينما الناس لا يأتون بكثافة للتسجيل في اللوائح الانتخابية رغم الدعاية في كل المنابر، ورقية ومرئية وإلكترونية؟
يتوقع أن يسهّل ويحسّن تقليص المقاطعات وعدد المنتخبين لتسيير المدينة. من يقول هذا؟
أنا. لكن حين أستمع للناس أكتشف أن الأمل الداخلي في الانتخابات مات لديهم. يدركون انه لا علاقة بين الحفر والتغيير المستمر لقوانين اللعبة الانتخابية. تتغير القوانين وتبقى الحفر أو تزيد. تتغير القوانين للحفاظ على السيطرة. فبعد جاذبية اللامركزية تعود جاذبية التمركز. فهل ستقل الحفر في السنة القادمة؟ لدى سائق التاكسي جوابٌ لا يتزحزح. لا ملاذ لسياراتنا إلا الله. لذا فالمرجو من عمدة الدار البيضاء أعزه الله أن يسارع إلى إصلاح الحفر لكي يتوقف سيل الدعاوي الشريرة ضده.