تجلس العجوز أمام باب بيتها الذي يوجد في مفترق طرق متربة وسط القرية. تراقب المارة. تستمتع بأشعة الشمس وقد تراجع البرد وكثرت الخضرة. تغير المشهد بفضل مطر كثيف أحيا الآبار. تشتكي العجوز من أن الغرباء هجموا على قريتها. تتمتم حين تراهم يمرون حولها. لا يحظى الغرباء بالترحيب. تردد أن الغرباء لا يشبهون"نا". وهم يعرفون نظرات العداء. ويدركون معاني الكلمات التي تقال في حقهم عن طريق مراقبة شفاه المتحدثين من بعيد. يضحك من يسمع كلام العجوز. وهي تقول بوضوح ما يقوله الآخرون بشكل ملتو. لا يصل كلامها لوسائل الإعلام. وعلى كل حال يسهل تجاهل عدم التسامح حين يصدر عن أميين.
يصل "الغرباء" بوجوه كالحة وثياب رثة، قادمين من مناطق المغرب العميق الجافة. وبعد أشهر تصفو وجوههم وتتغير ثيابهم. لكن موقف العجوز لا يتغير، فهي تعتبر أن سكان القرية "الأصلاء" أشرف وأغنى من غيرهم. وهم أصلاء بفضل مكان ميلادهم وتجانسهم القبَلي حتى أن للكثيرين الاسم العائلي نفسه.. بينما للغرباء ألقاب غريبة مثلهم. ألقاب تثير السخرية.
العجوز وغيرها يتكلمون وسكان القرية يتزايدون بشكل سريع. وهم ينقسمون بالنسبة للعجوز إلى أقارب وغرباء. والغرباء نوعان، فقراء وأغنياء.
يأتي الفقراء للعمل في المزارع العصرية التي تتشكل حول القرية. يعملون في مهن لا تتطلب مهارات كبيرة. يفضلون هجر مناطقهم القاحلة والجبلية نحو السهول الخصبة التي توفر العمل. حسب وزارة الفلاحة، توفر زراعة الخضر عشرين مليون يوم عمل في السنة. عمال فلاحيون موسميون ينحطون عميقا في البؤس مع تقدمهم في العمر وترهل عضلاتهم التي يجنون بها البطاطس والطماطم.
الأغنياء قلة دائما، وهم يمرون في سيارات كبيرة مسرعة. ويلقبون هنا "التماريين" نسبة إلى منطقة "تمارة" التي كانت حقلا وصارت مدينة، وهي تقع جنوب مدينة الرباط. لسنين طويلة، كانت المنطقة بين الرباط والدار البيضاء مزارع للخضار. كان المشهد من نافذة القطار عبارة عن لوحة خضراء متصلة. لكن خلال العشر سنوات الأخيرة تغير مضمون اللوحة. صارت المنطقة غابة عمارات. فقد باع الفلاحون هناك أرضهم بعشرات الملايين لكنهم لم يتخلوا عن الفلاحة، بل صاروا يشترون أراضي شرق الرباط في منطقة "تيفلت" التي تبعد عن العاصمة ستين كيلومترا.
هكذا جرى ترحيل المزارع الى قرى جديدة فتضاعف فيها ثمن الأرض عشر مرات. يريد المستثمرون استرجاع رأسمالهم أولا. وبما أن التمويل المرتفع عامل جد مؤثر، فإن الرأسمال الوافد يغير نمط الإنتاج الفلاحي، ينقله من المُعاش إلى التسويق. ولذلك فالغرباء في عرف المستثمرين يد عاملة جيدة، أفضل من يد "الأصلاء". ينظر المستثمرون إلى أيدي الفقراء لا الى وجوههم.
هكذا فإن غرباء القرية يقلبون نمط الإنتاج. ففي حقلين متجاورين، نجد أن حقل الغرباء منظم وعصري. لأن المستثمر الوافد يملك عقلية تجارية وخبرة كبيرة وشبكة علاقات ووسائل نقل للوصول للسوق.. بينما يواجه حقل "ابن البلدة" صعوبات بسبب ضعف التمويل والعقلية المعاشية. ويجد فلاحو المنطقة صعوبة في تغيير طريقة تفكيرهم لمجاراة جيرانهم الجدد. غالبا ما يخطط الوافدون لشراء حقول جديدة متعثرة. وبهذا تؤكد الأساليب الإنتاجية في الفلاحة أن البقاء لنمط الإنتاج الأكفأ.
يتغير نمط الإنتاج تبعا للتعامل مع البئر. والبئر هي كلمة السر في زراعة الخضار في المغرب. سابقا كان الماء يُستخرج بنواعير تديرها الحمير. يجري حفر البئر بالفأس والرفش دون بناء جوانبه لذا يُقتَل حافريه في حالات كثيرة. الخطير في الأمر أن الضحايا ليس لديهم أي تأمين. وليست هذه الحوادث معزولة. فالكثير من العمال والفلاحين المغاربة يعملون في ظروف خطرة دون أي تأمين أو تغطية صحية، يواجهون مخاطر الأسمدة المسمومة معزولين. قد يموتون دون أن تعرفهم النقابات. يجري هذا رغم تضخم الخطاب الشفوي حول العالم القروي لدى السياسيين المغاربة. فلا يمر يوم دون أن تتحدث التلفزة الرسمية عن العالم القروي. لكن وحده ثمن الطماطم يؤثر في حياة الفلاحين. ولا تستطيع الحكومة ولا البرلمان التأثير في ثمن الطماطم.
بعد الناعورة، بدأ في ثمانينيات القرن الماضي استخدام مضخات تعمل بالبنزين. وهي مكلفة وتتعرض للأعطاب. وحاليا تعمل المضخات بالكهرباء ويجري السقي بالتقطير، وغالبا ما يتم زرع ثلاثة محاصيل.
أثَّرَ هذا التحول في مناطق مغربية كثيرة، فقد انتشر السقي، خاصة سقي الخضار في المناطق المحيطة بالمدن ذات الكثافة السكانية المرتفعة والتي تشكل سوقا مهما.. وبذلك عوض الفلاحون خسائر الجفاف والانهيارات المتتالية في إنتاج الحبوب.
المغرب مستقر سياسيا، وينافس اقتصاديا بفضل جهود الفلاحين لا بفضل خطابات البرلمانيين. في 2013، ارتفع إنتاج الخضر والزيتون برقمين لأن الظروف المناخية جد ملائمة وتقلل الكلفة وهذا يجلب التمويل. مؤخرا حصلَ المغرب على منحة قطرية بقيمة 136 مليون دولار ستُخصّص لتمويل مشروعين فِلاَحيَّيْن كبيرَين، يبدو أن المُتبرع هو الذي قرر أين ستصرف منحته. وقد اشترت شركات فِلاحية سعودية مئات الهكتارات لإنتاج الحليب في المغرب. يبدو أن المغرب سيصير سلة قمح وخضار العرب بدلا من السودان الذي صار سودانَيْن حتى الآن.
هكذا يؤثر رأس المال الوافد في القرى وعلى العجوز القلقة. مع الأسف، لا يهتم الرأسمال بمشاعر الناس في طريقه للربح.
بفضل تلك التحولات ترتفع الصادرات الفِلاَحية المغربية سنويا. فبينما يتراجع قطاع البناء وتتراجع السياحة بعد نقص توافد السياح الفرنسيين على المغرب إثر مذبحة شارلي إيبدو، تستمر الفلاحة بالتقدم وتعويض الخسائر الاقتصادية للبلد. اعترض الفلاحون الإسبان طريق الطماطم المغربية نحو أوروبا فجرى نقلها عبر السفن بدل الشاحنات. وقد انخفضت نسبة الطماطم الاسبانية في السوق الفرنسية إلى 13 في المئة بينما ارتفعت نسبة الطماطم المغربية إلى 70 في المئة. صحيح أن الطماطم تستهلك ماء كثيرا حتى ليبدو كأن المغرب يصدر الماء للاتحاد الأوروبي، لكن الطماطم مربحة. لأخذ فكرة عن الفوائد بالأرقام، فحاليا في المغرب يبلغ ثمن ليتر البنزين دولارا بينما ثمن كيلو الطماطم أكثر من دولار. فكيف تنعكس العملة الصعبة على القرى التي تصدِّر الطماطم؟
يقع هنا ما وقع لقرية "ماكوندو" التي كانت تصدر الموز في رواية "مئة عام من العزلة".. مع غياب السحر، إذ تتجه القرية لتصير مدينة. دخلها الماء والكهرباء والثلاجة والهاتف النقال وتحرر الناس من الارتباطات التقليدية. لقد تمنى ماركس حذف الفوارق بين المدينة والريف. ها هي تتراجع تدريجيا. هذه النتائج على الأرض تقلق العجوز التي ترى عالمها الذي ألفته ينهار. فالتطور الاقتصادي يجلب الغرباء مما يزعزع التجانس القبلي. تزعم العجوز أن بنات الغرباء لا يخجلن. تتحدث مستخدمة "نا" الدالة على الجماعة عند الاشارة الى "أصلاء" القرية. والغرباء ليسوا جزءا من"نا". ما هي المبررات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لرفض الغرباء في القرية؟ اجتماعيا ليسوا من مستوى"نا" نفسه. نفسيا هم غير مألوفين. والأساسي: اقتصاديا ينافسوننا في رزق"نا".
من حسن الحظ أنه رغم المناطقية البغيضة فهم ليسوا غرباء في الوطن.