عند مراجعة الصّفحات الأدبية بالجرائد المغربية، نجد نصوصا كثيرة عن المقهى، وهو فضاء المشردين الجدد، خاصة لدى الكتاب الموسميين الذين يكتبون سيرتهم الشخصية أكثر مما يتخيلون. وهم غالبا ما يتوقفون عن الكتابة بعد الزواج، وبعد العام الثالث من الزواج ينفرون من البيت ويعودون للمقهى.
لذا فالمقاهي بالمغرب كثيرة والحمد لله، وهي تستقبل مئات الآلاف يوميّاً. في الدار البيضاء عشرة مقاهي على الأقل في كل شارع.. وكلما زادت البطالة امتلأت المقاهي. تزعم الحكومة أن البطالة انخفضت وتقدم أرقاما تشمل الشعب كله. لكن الفوارق حسب الفئات رهيبة. فحسب إحصاءات المندوبية السامية للتخطيط تبلغ البطالة 14 في المئة في المدن و4 في المئة في البوادي. أي هناك فارق عشر نقاط، بينما تبلغ البطالة 22 في المئة بين الشباب دون الـ 24 سنة.
وبما أن أبناء الفئات الميسورة يتابعون دراستهم حتى سنّ الـ24، بفضل التفوق أو بفضل النقود، فان بطالة الشباب تتركز في الطّبقة الفقيرة. لكن بفضل التكافل الاجتماعي يساعد العاملون العاطلين، على الأقل بمنحهم نقودا للجلوس في المقهى ساعات غير محدودة لتبديد الوقت. في تونس يشرّعون للمشاكل: يريدون إصدار قانون يُلزم بعدم تجاوز نصف ساعة جلوس في المقهى. في المغرب لا شيء من هذا، لذا فذراع المقاهي مفتوحة للعاطلين والسماسرة والعشاق.
الجلوس في المقهى اشرف من الجلوس في الطريق حيث قد تدهسك سيارة مجنونة. في العرف الشعبي لا يجلس في المقهى إلا من لا شغل له. لذا لا توجد نساء في مقهى الحي الشعبي. فنساء الحي مشغولات بالكنس والطّبخ ورعاية الأطفال.. بينما نساء الحي المتبرجز لديهن وقت الفراغ.
يقع المقهى الذي اتخذه عينة للتحليل في أسفل عمارة من شقق لا تزيد مساحتها عن ستين مترا. مقهى الحي الشعبي ذكوري بامتياز. على الجدار صورة محمد السادس يشرب شايا. يحرص صاحب المقهى على إرفاق كل إبريق شاي مع كأس واحدة، لكن الزبون يطلب كأسين ليسقي من معه.
هنا رجال يلعبون الورق. بين حين وآخر يوشك احدهم أن يخسر فيعترض على قوانين اللعبة. يندلع خصام وقد ينتقل العنف من اللسان إلى اليد.. يسمي اللاعبون بعضهم بعضا "بوزبال". صحيح أن كل من ينطق بالمصطلح واثق أنه لا ينطبق عليه. لكن يحصل أن "يعترف". وأعتبر أن أهم وأخطر مصطلح سوسيولوجي ظهر في المغرب في بداية القرن الواحد والعشرين هو وصف فئات كثيرة بأنها "بوزبال". لا يمر يوم لا أسمع فيه المصطلح حتى أني صرت أشم رائحته.
لوقف النزاع، تتدخل النادلة، تبتسم، تربت على كتف الغاضب فيتراجع توتره. يجري تشغيل نادلة لتجلب الزبائن، خاصة حين تكون مكتنزة وترتدي سروالا أسود ضيقا. وقد سمعت زبونا يقول للنادلة: "أحبك حبا أصفى من الحليب وأحلى من العسل". تروج في مقاهي الفقراء جريدة رثة تداولتها عشرات الأيدي. يجري حديث عن السياسة بمعجم من الثقافة التحبيطية. يقسم أحدهم ويعد: "أنا مستعد ان أعطيك وجهي لتبصق فيه إن تغير شيء في هذه البلاد".
في المقاهي الشعبية تكثر الهواتف الغبية ويتحدث أصحابها عن سبل الحصول على رزق بسيط. تكشف المكالمات القصيرة بصوت مرتفع أخبار طعام رديء ورواتب منخفضة. وهنا تواجه النادلة مشكلة مع بعض الزبائن الذين ينتظرون غفلتها للمغادرة دون دفع.
في مقهى آخر للمعاينة - وسط الدار البيضاء وقريبا من مقر محافظة عين السبع، حيث عمارات نظيفة والكثير من الأشجار - يجري الزبائن مكالمات هاتفية طويلة بصوت منخفض وخليط من اللغات، وأمام المتحدث علبة سجائر وفمه أشبه بآلة حاسبة لا يتوقف عن عمليات الضرب والقسمة والجمع وبحث سبل التهرب الضريبي.
في مقاهي الأحياء المترفة لا وجود للاعبي الورق. توجد حواسيب وجرائد وهواتف ذكية ومعجم تجاري لا يدركه إلا السماسرة. هنا يجلسون ربع ساعة، يتناقشون في أمر ثم يغادرون لقضاء أشغال. قد يعودون من جديد للاستراحة والتسديد على مكسب آخر.. هنا يملكون المعرفة ووسائل الإنتاج. المعرفة رأسمال مدر للدخل. هنا طبقة وسطى حقيقية. يجلب الرجل معه أولاده، خاصة البنات حتى سن الخامسة عشرة. وحين يجلس المتزوجون في المقهى يبدون أشبه بغرباء تجمعهم عربة قطار بنوافذ مغلقة. طبعا لم أرَ قطارا بنوافذ مفتوحة.
في زوايا المقهى نساء لديهن نقود ووقت فراغ.. من مراقبة السلوك والمعجم والأشياء يظهر مدى اندماجهن في الدورة الاقتصادية، بعضهن ناشطات جمعويات وسياسيات، يتناولن العصائر والشوكولاتة. أفكر في لوحة "طاولة للنساء" للرسام الأميركي إدوارد هوبر. نساء يدخلن ويخرجن دون حرج. حتى الرجال ألفوا المشهد. وحدهم الواصلون الجدد للدار البيضاء مثلي يلاحظون الفروق.
يوجد مرحاض المقهى في الطابق العلوي. وهنا اكتشفتُ عش الغرام. الطابق العلوي قليل الإضاءة وهو للقاء الأحبة. في مقهى قرب الثانوية، الطابق العلوي مختبر لتأمل الخطوات الأولى للمراهقات في دنيا الحب، مع كل الخجل والتوتر الذي يميز الهواية. لكن في هذا المقهى وسط المدينة بعضهن "واثقات". يصل الشاب أولا. يجري عشرين اتصالا وهو على أعصابه. ثم تصل الحبيبة أنيقة معطّرة. تجلس وتحتاج وقتا لتسترجع هدوءها. يجري الحديث لذيذا. تسعدني مراقبة الذين يلتقون لأول مرة، غالبا بفضل وساطات هاتفية. فقد سهل الهاتف القوادة، جعلها أكثر فعالية وحررها من المراقبة. حتى المخابرات تعجز عن مراقبة الهواتف.
تتزايد رومانسية المقهى لأن الشبان يفتقدون أمكنة خاصة حميمة للخلوة. فالعقار غال جدا. المقهى هو المؤسسة التي تصلح لكل شيء. مشروع مربح ولها وظائف. وتعتبر زيارتها يوميا فرض عين. انتصر المقهى على المسجد والسوق والحزب والنقابة..
وظائف المقهى؟
مناقشة واسترخاء وفرصة للعزلة والتأمل وفرصة للإشباع العاطفي ولتدخين قليل من الحشيش ولغراميات الطابق العلوي في ضوء خافت.. هناك مشكلة صغيرة فرعية. تحذر المغربيات أبناءهن من الزواج من "بنات المقاهي". في الطابق العلوي للمقهى، لو جلست شابة متوسطة الجمال بضع دقائق، فسيقترب منها شخص ليقترح عليها مشروعا قصير الأمد. وبعد تفاوض قصير قد يحصل المراد وتمتلئ الطاولة بالمشروبات والحلويات. هكذا يؤدي المقهى الوظائف العاطفية ويحقق إشباعا غير مكلف للشباب من الجنسين. لا ألوم لا المشتري ولا البائع. فمن يستطيع في مجتمع تتجاوز فيه نسبة العزوبية 60 في المئة أن يتجاهل سوق الجنس؟
الحرية الشخصية مقدسة، لذا لا تقتحم الشرطة المكان. ثم إن الشرطة منشغلة بمكافحة الإرهاب. ولا يستطيع رب المقهى طرد الشابات من الطابق العلوي لسببين: الأول أن المقهى مكان عام، والثاني أن المقهى سيفلس. فالمقاهي بلا بنات أشبه بالمقابر.