صباح الجمعة في قلب الدار البيضاء، أقف أمام منصة وكراسي ولافتة كبيرة كُتب عليها "المركزيات النقابية الثلاث تقاطع احتفالات فاتح ماي احتجاجا على السلوك اللامسؤول تجاه قضايا ومطالب الطّبقة العاملة". قطعتُ شارع الجيش الملكي لألتقط صورا للمنصة من الجهة الأخرى. يتابع رجال الشرطة باستغراب شخصا يصور منصة فارغة. البوليس حاضر والنقابيون غائبون. البوليس واحد والنقابات متعددة.
توجد في المغرب نقابات كثيرة، حقيقيّة وورقية. والنقابة هي تجمّع أشخاص يمارسون نشاطهم في المهنة نفسها او القطاع، ويهدف تجمعهم للدفاع عن مصالحهم المادية والمعنوية وتحسين شروط عملهم. عرف المغرب تيارين نقابيين، تيار نقابي ثوري يريد تغييرا جذريا، جعل من النقابة – وهي إطار مهني برجوازي افرزه المجتمع الرأسمالي - منبرا سياسيا لا يختلف عن الحزب. وتيار إصلاحي يتفاوض ويهدد بالإضراب كتوقف جماعي عن العمل. التيار الأول يسمي التيار الثاني "النقابات الخُبْزية".
أما النقابات التي ابتكرت مقاطعة الاول من أيار / فاتح ماي فهي أولا الإتحاد المغربي للشغل بقيادة ميلودي موخاريق المولود في عهد ستالين، وثانيا "الكونفدرالية الديمقراطية للشغل" التي عرفت زعيما أوحدا منذ نشأتها هو نوبير الأموي والمولود في عهد ستالين. النقابة الثالثة منشقة عن الثانية لأسباب سياسية وهي الفدرالية الديمقراطية للشغل. وزعيمها الأوحد منذ نشأتها ولد في عهد لم أعثر عليه..
حسب النقابات المُقاطِعة، فإن السّبب هو كون الحكومة الإسلامية لم تقدم شيئا للطبقة العاملة، بل هي تجْهز على مكتسبات مثل تمديد سن التقاعد، زيادة الاقتطاعات من الأجور لإنقاذ صندوق التقاعد من الإفلاس الوشيك.. ردا على هذا السلوك الحكومي اللامسؤول قاطعت النقابات فاتح ماي.
يَفترض هذا التفسير أن كل الحكومات السابقة كانت تبكي مع العمال وتردد معهم شعار "حقوقي دم في عروقي". ثم لو كان سلوك الحكومة مسؤولا هل سيكون الاحتجاج ضروريا في فاتح ماي؟
حسب الأدبيات المغربية فـ "فاتح ماي" احتفال بالنسبة للتلفزيون، وهو عرس نضالي بالنسبة لليسار. حفل وعرس. هناك خلل في تسميات. ما كان صراعا صار تمييعا. لذلك تغيرت صورة فاتح ماي بين ما يسميه المناضلون أيام العز وما يجري هذه الأيام.
في أيام العز كان هناك مناضل ــ أي شخص يحب وطنه ومستعد للتضحية في سبيل المصلحة العامة ــ ينزل للشارع ضد هضم حقوق الطبقة العاملة ويطالب بالتغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية. وكان هذا الموقف يلهم الجماهير التي تنزل مبكرا للشارع وسط زغاريد النساء وروح حماسية تصمد في وجه الشمس الحارقة.. حدث هذا مرارا في شوارع الدار البيضاء التي تحتضن أحياء صناعية كبيرة هي معقل الحركة النقابية المغربية. كان ذلك في أيام عز النقابات. حينها كان اليسار هو القائد الأول للعمل النقابي على المستوى الميداني حتى حين تكون القيادة إصلاحية نصف يمينية.
مع الزمن لاحظ الناس أن لكل حزب نقابة، يحركها حين يكون في المعارضة ويضعها في الثلاجة حين يكون في الحكومة. وبهذا الشكل فالنقابة قفاز للعراك. وعندما تنحط الظاهرة الحزبية تتبعها الظاهرة النقابية. لقد صار للانتخابات وزن في المسألة. كانت النقابات فيلاً تركبه الأحزاب لابتزاز السلطة.
تراجعت صورة المناضل وصعدت صورة السّمسار، وهو الذي يستغل كل حدث ومحطة لتسمين نفسه. تزعزعت صورة إحدى النقابات حين داست ابنة زعيمها عمال شركتها بسيارتها. فعرف الناس أن مليارديرا يتزعم العمال ويدافع عن حقوقهم. فهم الناس أن فاتح ماي لا يؤثر في مصير عامل خدم ثلاثين سنة في معمل وحين تقاعد صار بائسا، يشعر بالجحود. لذا فلا زعامة اليوم للطبقة العاملة لأن شكل هذه الطبقة هلامي أصلا.
هكذا صار صعبا على النقابات تعبئة الكتل البشرية مثلما في السبعينات. يتمنى الكثيرون أن يعود فاتح ماي لأيام العز لكن ما عاد الفرد يؤمن إلا بنفسه. فقد الثقة في الشأن العام. صار ينظر للنضال كتضييع للوقت وكبلاهة، والحذق الآن هو أن يبحث كل فرد عن مصلحته الآنية.
لذلك ظهرت أشكال لاستغلال الحدث، فمثلا هناك مطعم يدعو زبائنه لسهرة غنائية بمناسبة فاتح ماي، وعلى صورة الإعلان مغنٍ شعبي محاط براقصات شعبيات. واضح أن صاحب المطعم لا يميز بين عيد العمال وعيد الحب.
تسلّم رواد فيسبوك المغاربة هذه الصورة لتفسير غموض المشهد النقابي. إليكم تمرين في تبرير العبث وأوجاع الكوميديا النقابية: النقابات تقاطع العمال. هناك نقابات هزلية ونقابات جادة. دون احتجاج فاتح ماي أين سيقضي المُقاطع يومه، في المقهى أم سيلتحق بعمله، أم سيتابع نومه؟
سيادة السخرية وغياب الاحتجاج ليسا علامة على الرضا. فمثلا صوت العاطلين أعلى من صوت العمال. يظن العاطل أن على العامل أن يفرح مهما كانت ظروفه. في المقهى حيث أجلس تعمل امرأة تغسل الكؤوس تحصل على حوالي خمسين دولارا أسبوعيا. وهي غير مسجلة في صندوق الضمان الاجتماعي، ويدفع لها صاحب المقهى أجرها نقدا، بلا عقد عمل، وهي تعمل يوم فاتح ماي، ويحدد الراتب باتفاق ثنائي تبعا للعرض والطلب. يوجد مئات الآلاف مثل هذه المرأة في المغرب. لقد جعلت وفرة اليد العاملة البشر رخيصا.
الوضع صعب اذاً فلماذا وصلت النقابات لهذا الضعف؟ هناك أسباب سياسية واقتصادية.
صادف فاتح ماي يوم الجمعة المباركة، وهكذا صار مباركا على حكومة حزب العدالة والتنمية. فبعد سقوط الأمطار الكافية، هوتْ أسعار النفط ثم هوت النقابات. تسود فكرة مفادها أن هذا عصر الإسلاميين، والإخوان المسلمون أفضل للمغرب من داعش. لذا فكل احتجاج يبدو كأنه تهديد للاستقرار السياسي السائد. المغرب جنة الآن مقارنة بما يجري في بقية العالم العربي. يقول المغاربة إن الرّمد ولا العمى. ولا يمكن لوم السعيد بالرمد لأنه يخاف من العمى.
السبب الثاني اقتصادي. ففي شارع الجيش الملكي عمارتان متقابلتان، الأولى هي مقر نقابة الاتحاد المغربي للشغل والثانية هي مقر بورصة الدار البيضاء. وإنه لمن الصدف الدالة أن تتقابل عمارة الكادحين وعمارة رجال الأعمال، ويفصل بينهما شارع الجيش.
عمارة تمثل المأجورين الذين لديهم يوم عيد واحد في السنة، مثل النساء اللواتي لديهن الثامن من آذار/مارس.
مقارنة أخرى: للعمال ثلاثون نقابة ولرجال الأعمال نقابة واحدة. لذا تحصل نقابتهم على مطالبها من الحكومة بينما وضع نقابات الشغالين يتدهور. مصير العامل في يد رب البورصة. لقد كان لتطور نظام الإنتاج الرأسمالي الأثر الحاسم في نشأة النقابات العمالية. وحين انتقل ثقل الاقتصاد من المصنع إلى البورصة فقد العامل نفوذه. صار الرأسماليون يهددون العمال بنقل مصانع النسيج إلى بنغلادش فصارت الحكومات تغازل رأس المال وحده.
من خطاب النقابات ذات القيادة الستالينية لا يبدو أنها تدرك التحولات الجارية. لقد استعاد الرأسمال سطوته، في حساب كتلة أرباح بورصة الدار البيضاء سنة 2014، حصلت اتصالات المغرب على 26 في المئة منها وحصلت الشركات العاملة في القطاع المصرفي على 42 في المئة منها. ربع الاقتصاد كلام ونصفه مصرفي. صار الاقتصاد الرقمي الافتراضي أقوى من الاقتصاد الواقعي القائم على الحقل والمصنع. لذا صعب على النقابات الاحتجاج ضد حواسيب البورصة.