تحتلّ أخبار الكوميديا الرمضانية الصفحات الأولى للصحف المغربية، وتشغل مواقع التواصل الاجتماعي. وهي ميزان لقياس مزاج واهتمامات الشعب حاليا. وهذا النص عن المتفرجين وليس عما يجري على الشاشة.
لقد رجع رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران من منتدى دافوس البحر الميت، وقال لأعضاء حزبه إن الزعماء الأجانب يتعجبون من "استقرار وأمن المغرب وغياب الإرهاب والمؤشرات الاقتصادية الإيجابية المرتفعة".
تقول التقارير الاقتصادية إن المغرب يتوفر على ثاني أحسن بنية تحتية في أفريقيا، وان مستوى الاستثمارات الأجنبية المباشرة ارتفع بنسبة 12.2 في المئة. أسعار الفوسفات ترتفع، ويقول بنك المغرب إن احتياطي العملة الصعبة ارتفع 17.2 في المئة هذا العام. ويتوقع وزير الفلاحة إنتاج 110 ملايين قنطار من الحبوب في العام الحالي. ومن جهتها، توقعت المجلة البريطانية الإيكونوميست أن يحقق المغرب معدل نمو اقتصادي في حدود 4.2 لغاية سنة 2020. وأخيرا جلبت جنيفير لوبيز مئة وستين ألف شخص إلى حفل رقصها بالرباط.
النقود لا تكذب، الأرقام لا تكذب. هل استفاد كل المغاربة من هذا الخير بالتساوي؟ لا.
المهم.. عيّن الملك مدير المخابرات مديرا للشرطة، جمع الرجل المنْصبين ليراقب ويضرب. ثم لا أحد مسلح في المغرب. ممنوع حمل السلاح قولا وفعلا. والمغرب محمي من جنوبه وشرقه بفضل جدار يمتد على طول 2500 كلم، والحدود مع الجزائر مغلقة. من الغرب هناك المحيط الأطلسي على طول 3000 كلم، وفي الشمال هناك المتوسط على طول 500 كلم. فمن أين سيأتي الشر إذاً؟
مع هذه النِعم يحق لي الحديث عن الفن، وبالضبط عن ذوق الشعب.
حين عُرِضت كوميديا رمضان الماضي، قال الصحافيون والشعراء والكتاب: هذه كوميديا تافهة ساذجة تستغبي الناس ولا تقدم لهم شيئا وهي نمطية فيها الكثير من التكرار. هكذا تحاول النخبة فرض معاييرها على الشعب. تقرر له ما يستحق المشاهدة وما لا يستحق. عادة يكره المثقفون التلفزيون، وهم يعتبرونه نقيض الكتاب. لكن الكتاب بالأبيض والأسود بينما التلفزيون يفيض فرجة وألوانا. والمثقفون الذين لا يظهرون في التلفزيون لا يحوزون شهرة وشرعية.
الجديد أن برنامجا إذاعيا في قناة البحر الأبيض المتوسط التي تبث من طنجة استضاف مؤخرا مخرج هذه الكوميديا، هشام العسري، فقال: "هذه كوميديا رمضانية موجهة للأميين من الشعب، وهي كوميديا بدون أطروحة، بدون موضوع موحد ولا تحمل أية قضية.. وحتى لو وضعت فيها قضية ما فسأتعب نفسي، لأن مقص الرقيب سيحذفها.. في التلفزة لا يمكن أن نتحدث عن أي شيء، هناك ممنوعات كثيرة.. وأنا لا أشاهد ما أصوره للتلفزيون".
هكذا رد المخرج على النقد الذي وجه له. تَفضّل بتسمية الأشياء بأسمائها عن كوميديا ترفع شعار "الفائدة في التكرار". وهذا النوع منتشر بقوة بين المحيط والخليج، ففي السعودية وجيرانها، نجحت سلسلة "طاش ما طاش"، وفي مصر نجح "الكبير أوي"، ويمكن مشاهدة حلقة المزاريطة حيث يقلد الصعيدي مايكل جاكسون. وفي تونس نجحت سلسلة "نسيبتي العزيزة"، وفيها إبراز شديد لبلاهة النساء، وقد حققت السلسلة ملايين المشاهدات على يوتيوب. وفي المغرب هناك سلسلة "الكوبل" لحسن الفذ و "كنزة في الدوار" هشام العسري (أي في البادية). الفذ مثقف ويتصنع الغباء والأمية والفقر ويرتدي ملابس ذات ألوان متضاربة ليطابق تصور متفرجيه للإنسان المغربي.
هذه شعبوية وديماغوجيا فنية، وفي المغرب الكثير من الشعبوية السياسية أشهرها حين لام برلماني الحكومة التي تملك دار سك النقود ومع ذلك لا تطبع ما يكفي منها للشعب. وقد صفق الناس للبرلماني الأمي. مع الأسف لا يحتاج المشهد السياسي الى سياسيين مثقفين ومستقلين. وكذلك المشهد الفني.
ميزة هشام العسري أنه كشف وعيه بأنه مخرج بوجهين، وجه للشعب ووجه للنخبة. فهو حين يخرج أفلامه السينمائية يحرص على رفع المستوى والتعبير بالصور العميقة كما في فيلمه "هُم الكلاب". لكنه حين يخرج الكوميديا الرمضانية للعامة يقول "لا استطيع أن أكون جديا لأن إدارة التلفزيون لا تقبل الجدية".
هنا أيضا لا نناقش المخرج بل طبيعة الذين يعتبرون أنفسهم نخبة: انتقدوه حين أخرجها لأنها تافهة. وقرروا أن يفترسوه حين قال إنها تافهة. اتهموه باحتقار الشعب وهذه جنحة لا تغفر.
يتهمونه بتقديم تسلية تفترض أن الجمهور غبي. وحين تنجح التسلية يرفضون أن تصير المسلمة بديهية. يرجع ذلك إلى رفض المعلقين تقسيم الشعب إلى نخبة وعامة، بل يريدون المساواة بين كل أفراد الشعب في كتلة واحدة. في إدارة التلفزيون يعرفون أن هذا مستحيل ويركزون على الأغلبية التي تستهلك ما يقدم لها بفرح.
الدليل: تعلن القنوات بفرح عن نسبة المتابعة كدليل على جودة ما يعرض. حاليا تُعتبر نسبة المشاهدة معيارا لا يُدحض للنجاح. ينجح ما يطابق ذوق المتفرج، والأرقام لا تكذب. يزعم الفنانون أن هذا ينطبق على الاقتصاد ولا يمكن تفسير عدد مشاهدات يوتيوب كدليل على الجودة الفنية. وهناك أرقام أخرى تؤكد الحاجة إلى كوميديا الغباء، فالتلفزيون يخصص لها ملايين الدولارات. والعائد الإعلاني مضمون. وبذلك، فالقرارات التي تتخذها إدارة التلفزيون مبررة باسم الاقتصاد الذي لا يُدحض. وعادة ما تكون للكوميديا الناجحة امتدادات اجتماعية. فمثلا صار اسم سلسلة "الكوبل" يستخدم في المجال السياسي، ويستخدم الأفراد تعابيره المسكوكة للسخرية بعضهم من بعض. وكل هذا من منافع الكوميديا من وجهة نظر الشعب.
وتستخدم تلك التعابير المسكوكة في الوصلات الإعلانية أيضا، ويحصل نجوم كوميديا رمضان على الملايين من إعلانات شركات الاتصال التي تلعن الصمت وتبيع الكلام بالذهب. الأرقام لا تكذب. النقود لا تكذب، إذاً فالتلفزيون يعرف الشعب. والنخبة هي الغبية لأنها لا تعرف الشعب الذي تزعم النضال لمصلحته، لذا فهو يصدم توقعاتها كل مرة.
المساواة مبدأ وحق وليست حقيقة قائمة. السوسيولوجي البصاص معني بما يجري لا بما ينبغي أن يكون. كل من يخلط بين الأمرين تصدمه الوقائع يوميا. وقد أقيل وزير العمل المصري لأنه قال إنه لم ير ابن حمّال قاضيا. لو قال إن من حق ابن الحمال أن يصير قاضيا لصفقوا له.
الناس متساوون نظريا فقط. ممنوع الخلط بين الإيمان بالمساواة والاعتقاد بتحققها. الحقيقة الوحيدة على الأرض هي اللامساواة في الأكل والسكن والقدرة على الفهم واستهلاك الفن. إن العمل العضلي وانتظار الأوتوبيس ساعات طويلة والجوع وانعدام وقت الفراغ عوامل لا تساعد على الفهم. والتلفزيون يقدم للناس تسلية على قدر فهمهم. إذاً فالتلفزيون يعرف الشعب والشعب يعرف التلفزيون.